وبعد أن وصلتُ لأستلم شهادة البحث ووقفت أمام ذلك الأفندي وبعد أن بقيت في كشف الانتظار ردحاً من الزمن وجدت الأفندي يقول لي: الأفندي الكان هنا.. سافر يعمل عمرة وقال ما جاي.. تصور !! ذلك الأفندي استلم كل أوراقي المصاحبة لاستمارة شهادة البحث… مثل شهادة خلو الطرف من الضرائب ومن الزكاة ومن العوائد والكهرباء والمياه وشهادة من المجلس الشعبي ومن اللجنة الشعبية وتلك لعمري شهادات لا أظن في مقدوري الحصول عليها مرة أخرى ولو أفنيت العمر كله لما ألفت بينها. وقد تحصلت عليها بأعجوبة خارقة ليست من أعاجيب هذا الزمان.. إذ أنها تندرج تحت المعجزات ومستحيلات العرب الثلاثة مثل الغول والعنقاء والخل الوفي.. ولكن هذا الشخص يفهمني ببساطة أن الأفندي الكان هنا وقد عرفت اسمه فيما بعد.. دافوري.. قد سافر لأداء العمرة وقال لجميع معارفه إن عمرته تلك قد تطول… ولكن كيف تطول وأوراقي كلها عنده وهو الذي أشار علي أن انتظر («أصلوا الدنيا طارت»… وهو الذي أفهمني أن أي بحث في أي علم من العلوم يستغرق زمناً طويلاً فما بالك بشهادة بحث التي يدل عليها اسمها. وبالطبع فأنا قد أنتظر ولكني لن استسلم بسهولة.. فهذه معركة سأخوضها « يا غرق يا جيت حازما» أي شهادة البحث.. ومنذ هذا اليوم الأغر سجلت اسمي طالباً في كلية شهادة البحث… وسأكون طالباً مجتهداً مثابراً حتى أتخرج في نهاية الأمر بشهادة البحث مع مرتبة الشرف الأولى لأزين بها صالون بيتنا. وأول خطوة بدأت بها هي أن أسأل عن الأخ دافوري: يا خوي.. بتعرف دافوري؟ أيوه… مش الشغال في قسم الشهادات دا؟ الله يبارك فيك … تراك عرفتو… عايز أعرف هو من أولاد وين؟ دافوري… من حلة جنب المحيريبة… أسمها شملة… ولو قابلت أي واحد من المحيريبة… يقدر يدلك على جماعة شملة.. أنا شخصياً ما بعرف واحد من المحيريبة… لكن ممكن تمشي السوق الشعبي هناك في واحد ترزي اسمه حامد كل الناس بمروا عليهو… يا للسعادة: في أول حصة لي قطعت شوطاً كبيراً.. فهذا الرجل مشكوراً أعطاني معلومات قيمة جداً وما عليّ إلا أن أذهب إلى السوق الشعبي لأسأل عن الترزي حامد.. ولابد أن حامد هذا علم في رأسه سنجر لأن الرجل لم يذكر لي أين يقع دكانه.. وقد صدق حدسي فعندما سألت أحد الذين يبيعون عصير الليمون عن محل حامد الترزي… أشار بيده إلى صف دكاكين من الناحية الغربية للسوق الشعبي وأوصاني أن أسأل هناك أي شخص عن حامد الترزي.. وفعلاً، فعند ما سألت أول شخص في ذلك الصف أشار إلى رجل يجلس خلف ماكينة خياطة سنجر معتبرة وقال لي أهو داك حامد.. قابلني الأخ حامد مقابلة طيبة جداً وتبسّم في وجهي محققاً صدقة كبيرة إذ «أن تبسم المؤمن في وجه أخيه صدقة» … وعرفت لماذا هو مشهور…. فقلت له الحقيقة.. أنا مش عايز أخذ من وقتك كتير .. أصلوا بسأل عن واحد أسمو دافوري من حلة شملة جنب المحريبة وعايز لي أي زول من أولاد المحيريبة عشان أسأله.. ورد حامد قائلاً: - يا خوي زولك دا .. مش دافوري بتاع السجلات؟ أيوه … دا هو الحقيقة مش من حلة شملة لكن من حلة ودكوار… وهسع لو انتظرت نسيبو المتزوج أخته حيمر من هنا… وحمدت الله حمداً كثيراً… تصور في يوم واحد أصل إلى صهر دافوري… هذا إنجاز عظيم.. لا يقدر عليه إلا المثابرون من أمثالي… وكل الحكاية أن انتظر قليلاً مع حامد الترزي حتى يأتينا ذلك الرجل… وأنا أصلوا مارق للانتظار.. أحضر لي حامد كرسياً جلست عليه ثم طلب لي شاياً صاموتياً من الذي يتخصص فيه باعة الشاي بالسوق الشعبي ومر الوقت وانتصف النهار ولكن نسيب دافوري لم يحضر… وكان حامد يطيب خاطري قائلاً: انتظر شوية … لازم يمر علي… أصلوا عندهم حاجات هنا لازم ياخدوها قبل ما يسافروا. أنت عارف ناس زي ديل مشاغلهم كثيرة. ولما لم يكن لدي ما أفعله سوى الانتظار فقد قررت أن انتظر واعتبرت أن سنة أولى بحث مرحلة مهمة وقد تستغرق زمناً طويلاً وأنا قد وطّنت نفسي على ذلك. جاء نسيب دافوري بعد صلاة الظهر بقليل وهو يحمل أشياء كثيرة ويجفف عرقه ويخاطب حامد قائلاً بالله يا أخي كله حاجة بقت نار.. عليك أمان الله الحاجات الشايلها دي كلفت أكثر من خمسمية ألف جنيه الحكاية شنو؟ غايتو أسكت ساكت!!.. وقدمني حامد للأخ وقد جذب صندوق شاي فارغ ليجلس عليه.. وعندما سألته عن دافوري أجاب: دافوري … مافي… دافوري مشى العمرة… ويمكن يطول هناك.. أنت عايز بيهو شنو؟ الحقيقة أنا عايز أعرف عنوانه هناك في جدة عشان عندي ليهو جوابات مهمة. صمت نسيب دافوري فترة ثم قال: على العموم هو ما خلي عنوان وقال بكتب لينا من هناك لكن يكون نازل عند أولادنا ناس بدر الدين في بني مالك في جدة جنب دكان الرشيد… ولكن البقطع شكو تمام صاحبه حسن الخضر في الثورة جنب محطة شقلبان.. أهو دا الزول البقدر يدلك عليهو. وتساءلت قائلاً : وحسن الخضر دا شغال شنو؟ أجاب: - عنده محل فول مشهور في الناصية.. لو سألت أي زول بدلك عليهو. وفي المساء وأنا أمتطي حافلة الثورة غير عابئ بالزحمة والمدافرة توجهت نحو محطة شقلبان.. والنسيم العليل المعطر برائحة الفول والجبنة.. تداعب أنفي ووجهي وهناك كان جمع من الناس يتناولون عشاءهم ورجل وقف يطلب من حسن الخضر: اسمع يا عم حسن أدينا فول بكم؟. بتلاتة جنيه.. وكمان موية جبنة بجنيه.. ولو أديتنا موية زيت بجنيه تكون ما خليت حاجة.. ويصيح حسن الخضر قائلاً: - يا أخ .. 3 جنيه دي لو جابت ليلك سندوتش تكون ما خلت حاجة… على العموم عوضنا على الله… هاك … وعندما فرغ السيد حسن من زبائنه التفت نحوي فشرحت له موضوعي فقال: والله ود حلال… تصور هسع جاني جواب من دافوري … وقال أنتهى من العمرة ودلوقت بفتش لي شغل… وبيني وبينك هو قال تاني ما جاي … وأحسن ليهو يا أخي يشتغل هناك جاي بالله يعمل شنو؟ وشعرت في أعماقي بشماتة لا حد لها.. إذ أن دافوري نفسه في حالة انتظار.. وهو الذي اعتاد أن يجعلني انتظر الساعات الطويلة… وتحققت من الأخبار التي تقول إنه لن يعود… ومعنى هذا أن أوراقي التي قضيت عمري كله أجري خلفها من مكتب لمكتب حتى اكتملت ولا يعرف مكانها إلا دافوري قد ضاعت إلى غير رجعة. أخذت العنوان بالكامل من السيد حسن الخضر.. وجلست لانتقل إلى المرحلة الثانية: المعروف أن تأشيرة العمرة هي لخمسة عشرة يوماً فقط.. والآن حسب البحث الذي قمت به فإن دافوري قد قضى 35 يوماً ومعنى هذا أنه يعتبر متخلفاً ومخالفاً… وكتبت خطاباً اخترت كلماته بعناية للسلطات في جدة أفهمتهم فيه أن دافوري يعتبر متخلفاً. وأرفقت مع الخطاب عنوان دافوري كاملاً. وبعد أسبوع ذهبت للمصلحة… وهناك كان دافوري يجلس في مكتبه وكنت أنا أقف أمامه أقدّم له رقم المعاملة.. فتناوله وهو يكمل حديثه مع الموظف الذي يجلس عن يمينه قائلاً: تتصور ناس الترحيل هناك في السعودية صعبين بشكل… جوا عديل قبضوا علي وودوني الترحيل... لكن أنا ما عارف كيف عرفوني أنا بالذات متخلف..