مما يسوؤنا أن تتحول صحافتنا إلى ملاقطات ومنابذات بين الصحفيين أنفسهم، ليسهموا في انحطاط الثقافة الصحفية ويؤثروا سلباً على المتلقي إفساداً لرأيه وتشويشاً على رصيده الفكري ليصبح عرضة للإتلاف. فالصحافة التى فتحت لها الأبواب، ونص الدستور والقانون على حريتها، ليست هى الصحافة التى ينبري الكتاب وأصحاب الأقلام، استغلالاً لما منح من حرية فى ساحتها، لسبّ هذا وشتم ذاك، لتسود ثقافة الإيذاء، ونحن أمة مطالبة بإماطة الأذى عن الطريق، دعك من الأذى الذى ينعكس من الكلمات الموثقة التى تجرح القلوب، وتفتك بأخلاق المؤمنين. وما يجعل المرء يشيح بوجهه، عندما يتصفح صحافة هذه الأيام، فيجد أن من بين العاملين فى مؤسساتها من تخصص فى كشف العورات، والتلصص على البيوت والأسر الكريمة التى كانت فى مأمن من القيل والقال، لتسهم مثل هذه الصحافة فى الإطلاع على أسرار الأشخاص، ومقدسات الأسر التى لا يحق لكائن من كان أن يتجاوز الحدود وتحدثه نفسه لنشرها والتبشيع بمن كانوا على درجة من الحرص، لحفظها وقضاء حوائجهم استعانة منهم بعنصر الكتمان. وأبشع الذى يطلع عليه القراء فى الصحافة ما يتصل بأحاديث قيلت فى مجالس خاصة، ومناسبات لا علاقة لها بعملية النشر فى مطبوعة المعنى بها هو الجمهور، وليست الشريحة التى كانت تتبادل الرأي فى موضوع ينحصر فيها ولا يقبل أن يعمم هكذا ليصبح موضوعاً عاماً لأنه غير قابل للإذاعة والشيوع. والأقلام الصحفية الحرة، تنأى بصاحبها عن الإسفاف، وتتجنب الإساءات، وتتجه مباشرة إلى أمهات القضايا، وجوهر المشكلات، إذ لا يعني القراء أن فلاناً أو علاناً قد انحدر من أسرة تتصف بكذا أو كذا، كما لا يعنيهم من أي جهة او قبيلة أتى هذا الوزير أو ذاك المسؤول، لأن مثل تلك الكتابات، هي كتابات تنزع نحو عَنْصرة الكلمة وجهوية المطالب، وقبلية المناصب، وزرع بذرة الحقد والفتنة بين أعضاء المجتمع، وما هكذا تحمى الديار، ولا بهذا الأسلوب تحصن المجتمعات، وتبنى الدول المتطلعة نحو المجد والمتجهة بأهدافها من أجل تكريم بني الإنسان. والإسفاف في صحافتنا، أصبح يتخذ أشكالاً عديدة، منها ذلك الذى يركز حول الفتنة، ومنها الذى يدور حول السيرة الشخصية للأفراد والقبائل والجماعات، كأنما نحن قد قررنا أن نسير فى طريق العنصرية والاثنية اللتين فتكتا بشعوب فذهبت ريح تلك الشعوب، عندما فسدت الأخلاق بسبب ما راج من كلمات، وتعمق من إساءات. ولا نرضى إطلاقاً أن نرتد لتتحول الصحافة من آلية لبناء الرأي العام، إلى معول للهدم، يبدأ بالفرد ثم يقضى أخيراً على كرامة وعزة المجتمعات. فالمقال الذى ينضح بنابي القول، وسقط الحديث، وسُمِّ القلم، علينا أن نحاسب صاحبه بالاستهجان والاستنكار قبل مواجهته بالقانون، وإيقافه بين يدي الله فى ردهات المحاكم والقضاء. والذى حشد عقله برخيص الثقافة، وسوء التربية وظن أنه صحفي همام، علينا أن نعيده إلى الجادّة بتقديم النصيحة له ليلتحق مرة أخرى بمؤسسة تربوية صوناً للمجتمع، حتى لا يتأذّى من رخيص ثقافةٍ ستتحول إلى مقالات، ومواد صحفية تؤثر على جميع الثقافات والاتجاهات. وعلى الدولة أن تحرص على إيجاد المقاييس والمعايير لمن ترخص له بالكتابة في الصحافة، تجنباً لإفساد الحياة بالرأي، وهو من أخطر أنواع الفساد.