- ليس في هذه الدنيا دولةٌ تخلو من شكل من أشكال الفساد المالي، الاختلاس، الرشا، المحسوبية، وغيرها من صور نهب المال العام.. ليس هنالك أُمَّةٌ أو مجتمع بشري لا يُعاني، بدرجةٍ ما، من وجود ضعاف الأخلاق، ضعاف الشرف، الذين يستبيحون سرقته.. - ولكن الفرق يظلُّ شاخصاً، بل باهراً، بين دولةٍ تُعزِّي نفسها، بكسلٍ بليد، قائلة: «جلَّ من لا يختلس!!» وتتعامل مع الأمر وكأنهُ قدرٌ مقدور، لا سبيل إلى تجاوزه، وبين دولةٍ أُخرى، تقرع طبول الحرب على الفساد، وتُرغم أنف قوانينها وشرائعها كي تلاحق الفساد وتطارده بلا هوادة، وتجعل رهان مؤسساتها العدليَّة، الأوَّل والأسمى، هو سرعة تقديم المفسدين إلى المحاكمات العلنيَّة، فيتحقَّقُ لها، بجانب ردع المفسدين وتنظيف سيرتها في العالم، يتحقق لها صيتٌ دعائي، تستطيع استثماره لاحقاً، بالحق أو بالباطل، في مشروعاتها السياسية، وفي تعاملاتها الدبلوماسية، وفي خصوماتها الدولية، وحتَّى في طموحاتها العسكريَّة وتدخُّلاتها وفرض أجنداتها على الدول الصغيرة «الفاسدة».. - في خواتيم العام الماضي، كان تقرير المراجع العام عن حجم اختلاسات المال العام، يحمِلُ في ثناياهُ كثيراً من مبررات اليأس من إصلاح حالنا، فالفسادُ يربو ويتضاعف عاماً بعد عام «ولا أدري حقيقةً ما الضرورة، أصلاً، إلى هذا الجهد المرهق الذي يتكبده ديوان المراجع العام بآلاف موظفيه ومراجعيه، و «مصاريفه» في سبيل قضيَّةٍ تبدو خاسرة؟؟ ما الذي تمَّ بشأن تقرير العام الماضي؟؟ لو كان تمَّ شيءٌ ذو بال، لما نتج عن ذلك تضاعف اختلاسات هذا العام إلى ما يقرب من مائتين بالمائة من حجم المال المنهوب!! بل يبدو الأمرُ وكأنَّ مختلسي العام الماضي قد نالوا جوائز وأوسمة، الشيء الذي أغرى مختلسين جُددًا بالدخول إلى الحلبة وتجريب حظهم!!!.. لو كنتُ مكان المراجع العام، لامتنعتُ عن مراجعة الأداء المالي هذا العام حتَّى أعرف ما جدوى تقريري للعام الماضي!!».. - أواخر العام 2009م، أُثيرت في فرنسا قضية التحقيق في «فساد» منسوب إلى جاك شيراك، الرئيس السابق لفرنسا، وأكثر رؤساء فرنسا شعبيةً بعد ديجول، والعمدة الأسبق لباريس، وحيثيات القضيَّة هي أنَّهُ قام إبَّان تولِّيهِ عمودية باريس بخلق وظائف لا ضرورة لها، استوجبت صرف مرتبات لموظفين لم تكن ثمَّة حاجة إليهم.. وخبر هذا التحقيق حول فساد شيراك الذي مضى عليه أكثر من خمسة عشر عاماً، أصبح مأدبةً دسمةً لمنابر الإعلام ووكالات الأنباء العالمية، وحقَّق دعايةً مجَّانيَّةً لفرنسا، ما كانت تكفي لإنجازها مليارات الدولارات.. وحقَّق، فوق ذلك، ارتياحاً وولاءً وفخراً عظيماً لدى كل فرنسي!! - لا أستبعد، بل أكادُ أُوقن، في الواقع، أنَّ إثارة قضيَّة شيراك لم تتجاوز مراميها ما هُو أكثر من إثبات أن فرنسا دولة ذات مؤسسات وذات قانون محترم لا يميِّز بين صغير وبين كبير، وأنها قلعةٌ من قلاع الحُرِّيَّة والديمقراطية والشفافيَّة والعدل.. واستقلال القضاء!! وهي دعوى، سواءً أصَدَّقناها أم كذَبناها، قد أنجزت الهدف المراد منها وأوصلت رسالتها ذات الشقين: الشق الأول منها موجه إلى الرأي العام الفرنسي ذاته، وهذا قد آتى أُكُلَهُ بنجاح كبير، والشق الآخر موجَّهٌ إلى شعوب العالم الثالث، وهذا الشق من الرسالة يقول لهذه الشعوب: «هذا هو السبب في أنَّنا شعوب عالم أول، وأنتم شعوب عالم ثالث.. وهذا هو السبب الذي يجعل تدخلنا في شؤونكم أمراً مشروعاً..».. وتتضمن الرسالة ذاتها، بالطبع، توطين «اليأس» في نفوسنا، ورضاءنا بما كُتب علينا من فساد وحماية «قانونية» للفساد!! - معلومٌ، بالطبع، أن فرنسا من بين جميع دول أوربا الاستعمارية ظلَّت، إبَّان فترة الاستعمار وبعدها، هي الدولة الأخبث والأكثر اختراقاً من قِبل اليهود الصهاينة، والأحرص على نشر وترويج الفساد في القصور العربيّة والإفريقية، والأكثر ازدواجيَّة في التعامل مع العرب والمسلمين والأفارقة، سواء داخل أراضيها أو بالخارج، كما هُو معلوم الطابع الثقافي الخبيث الذي طبعت به فرنسا الاستعمارية مستعمراتها السابقة، ممَّا أدَّى إلى بقاء التأثير الفرنسي قويَّاً وفعَّالاً داخل ما يُسمَّى بالمجموعة «الفرانكفونيّة»، بخلاف الطابع الاقتصادي الظرفي، الذي يطبع علاقة دول «الكومنولث» ببريطانيا.. ولكن هذه الحقائق مهما كان ثبوتها لا تعني الرأي العام الفرنسي في شيء، إنما يعنيه أولاً وأخيراً: كيف تتم معاملة الفرنسيين في بلدهم، وكيف تجري العدالة في ما بينهم.. - ليتنا نتعلم من فرنسا فنون الترويج، ولو كذباً، لشفافيتنا ونظافة أيدي كبرائنا.. ليت أحد كبار مسؤولينا يتطوَّع، فيوعز إلى أحد محاسيبه، بعد إمداده ببعض المستندات الزائفة، بالتبليغ عنهُ في قضيَّة فساد، أي فساد، ليقُل أنَّهُ، مثلاً، أحال أثاث مكتبه إلى مقلب القمامة واشترى أثاثاً جديداً مستورداً ببضعة ملايين من الدولارات، من المال المخصص لتسيير وزارته أو إدارته!! هي تُهمةٌ، كما ترى، تافهةٌ ولن تصل إلى القضاء، ولكنها كفيلةٌ بإنجاز مشروعٍ دعائي ضخم، للسودان وللمسؤول وللقضاء وللصحافيين أمثالنا، الذين لن تعدم بينهم من يتبجّح بأنَّهُ أحد كاشفي هذا الفساد، أو أن صحيفته هي أول من أشار إلى فساد هذا المسؤول.. ولا بُدَّ بالطبع من تسريب أخبار هذه القضيّة وتطوراتها، أولاً بأول، إلى وكالات الأنباء والفضائيات العالمية، وعقد الندوات حولها، وليس مهماً بعد ذلك إلامَ تنتهي، المهم هو أنّّنا، بعدها، سوف نستطيع أن نتجرَّأ للنظر في عيني أي أوربي، فرنسياً كان أم بريطانياً، ونقول لهم، بلا تردد: نحنُ دولة مؤسسات، والقضاءُ عندنا، والقانون، لا يميز بين صغير أو كبير.. - ليت وزارة العدل تضع خُطَّةً تستطيع بموجبها ملاحقة جميع المختلسين «بالطبع تحدَّث المراجع العام عن اختلاسات، ولم يتحدث عن مختلسين، ولكن يمكن استنتاج أن هنالك مختلسين، و ملاحقتهم» قبل انتهاء العام، واسترداد جميع الملايين المنهوبة من المال العام!! لو كنتُ من المليارديرات لأسهمتُ شخصياً في إخراج و تمويل مسرحيَّة تقول إن وزارة العدل السودانية قد طالت جميع مختلسي هذا العام، ثم أدفع قيمة الاختلاسات المعلنة، لإثبات أن المال المنهوب قد أُعيد إلى خزانة الدولة كاملاً .. - كم هو إحساس مريع، أن تحس بأنك من رعايا دولةٍ عاجزةٍ عن ملاحقة الفساد والمفسدين، ولو بالدعاية الإعلامية!!