لا شك أن الذين اطلعوا على فصول التاريخ الإسلامي الوسيط، لا سيما في أصقاع الأندلس والشمال الإفريقي والشام، قد وقفوا على فصول تعيسة بائسة مخجلة من فصول التاريخ التي اختلطت فيها الأهواء والمطامح الذاتية بالقضايا السياسية المصيرية الكبرى لأمة الإسلام وأرض الإسلام. وقد أتيح لي في العشرية الماضية أن أطلع على كتب أصدرها العلامة الليبي الدكتور علي الصلابي، المتخرج في جامعتنا العزيزة جامعة أم درمان الإسلامية الزاهرة، وهي كتب على النمط الحديث السهل الممتنع، قام فيها العلامة الليبي بإعادة كتابة التاريخ الإسلامي على نحو منهجي شامل أخاذ مصحوب بالتحليل المستوفي والاستنتاج الصائب. وحرص العلامة الليبي في تاريخه هذا الجديد على إبراز كل ما يهم المسلمين المعاصرين من دروس تاريخهم السلبي منها والإيجابي. ومن الدروس السلبية التي جلاها وحرص على أن يحذر المسلمين من تكرارها درس التحالف مع الأعداء الأصوليين الكفار ضد المسلمين. لأنه درس تكرر كثيرًا في تاريخ المسلمين الحديث وما فتئ يتكرر ويجلب على المسلمين الكوارث إثر الكوارث. شبيحة المؤتمر الشعبي وهذا هو الدرس الذي يكرره فينا اليوم قادة الحزب المارق المسمى بحزب المؤتمر الشعبي وقادة جناحه العسكري و«شبيحته» في العصابات التي تنتسب زورًا إلى مفاهيم العدل والمساواة. فقد حملت أنباء الأمس أن شراذم من قادة هذا الحزب القائم على تمرد دارفور قد أقاموا من مقامهم بعاصمة العدو الإسرائيلي في تل أبيب مراسم عزاء للدكتور الراحل خليل إبراهيم. وجاء في تضاعيف النبأ أن الحفل حضره جمعٌ كبير من قادة وكوادر حركات التمرد الدارفوري وظهرت فيه بعض الكوادر العليا بحركة التمرد اليساري العلماني الذي يقوده المدعو عبد الواحد كما ظهر به عدد من موظفي منظمات الأممالمتحدة المتواطئين مع المتمردين. وأفادت صحيفة «معاريف» الإسرائيلية أن الحضور تداولوا في اقتراح طرحته عليهم الدولة الإسرائيلية عبر مخابراتها للتعجيل بتوحيد فصائل التمرد الدار فوري. جبريل يخاطب إسرائيل وشارك في الحفل هذا الكادر الإسلامي الذي ما برح كل من عرفه يصفه بحسن الإيمان ولكن يبدو أنه لا يظن أن مما يخرم عرى الإيمان الولاء لأعداء الإيمان. والمقصود هو الدكتور جبريل إبراهيم الذي خاطب الحفل هاتفيًا من معقله لدى موسفيني، أعدى أعداء المشروع الإسلامي السوداني على الصعيد الإفريقي، وناشد حضور حفل تأبين أخيه أن يستجيبوا للمساعي الإسرائيلية الحثيثة «المخلصة!» لتوحيد حركات التمرد الدار فوري التي أزعج أولياءها الإسرائيليين كثرة انقسامها وتشققها. وقال الدكتور جبريل حسبما أوحت النبأ: «إن إسرائيل مهتمة بدارفور جداً ويجب الاهتمام بمبادراتها أيضاً لأنها الحليف الدائم للحركات المسلحة بدارفور». وقد صدق الدكتور في قوله الذي عبَّر به عن باطله الأثيم. ثم زاد الدكتور فواصل دعوته المحمومة لإنجاز مشروع حزب المؤتمر الشعبي القاضي بتقويض تدمير السودان انطلاقًا من كمبالا وجوبا، فدعا مقاتلي حركة العدل والمساواة، وأيقظ خلاياها النائمة في الوطن والمهجر، وحثها على التوجه عاجلاً إلى هاتين العاصمتين لمباشرة التدريب على مرحلة جديدة في مشروع القتال ضد الخرطوم. وبشّره أنصاره بشرى إبليس لأصحابه بأن النصر قريب وأن إسرائيل جار لهم! خسارة إسرائيل بمقتل خليل ويبدو أن إسرائيل جادة فعلاً في إحياء نار التمرد الدار فوري الذي ضخمته وتاجرت به وساءها خموده أخيرًا بعد الضربات الصاعقة التي أصابته بها قوات الشعب السودانية المسلحة الباسلة. وقد تاجرت إسرائيل بقضية دار فور منذ اندلاعها في سنة 2003م وطاب لها أن تصورها على أجهزة الميديا العالمية على أنها «هولوكوست» جديد. وموضوع الهلوكوست هو الموضوع الأثير الذي تتاجر به الدولة الصهيونية وتتلاعب به بعواطف الشعوب وتستدر به الدعم المستمر من القوى الغربية ودول الحضارة المعاصرة. وقد أقامت لهذا الغرض معرضًا دائمًا في واشنطون ليكون أداة تَخِزُ به كل من حدّثته نفسه بعداء إسرائيل أو الانتقاص منها أو نقدها ولو على نحو عادل موضوعي. وجاء تمرد دار فور ليخدم إسرائيل خدمة مزدوجة فهي هنا تنعش به ذكرى الهولوكوست حتى لا تخمد وتوحي بإمكان تكرار تجربته في هذا العصر. كما توحي به من طرف آخر أن أعداءها العرب والمسلمين هم كما تقول قتلة سفاحون يهرقون دماء الأفارقة ويخرجونهم من ديارهم وأوطانهم! كل هذا وحزب المؤتمر الشعبي ذو الجذور الإسلامية يبدو غافلاً أو متغافلاً عن ما تدبر إسرائيل وتكيد وربما حلا لهم أن يصوروا أنفسهم على أنهم قوم سذج يمكن أن يعتذروا في الغد عما تورطوا فيه بالجهل وحسن النية. ولكن أنى لهم العذر وقد انكشف حالهم لكل من ألقى السمع وهو شهيد. درس خالد من التاريخ وقد ذكر العلامة الصلابي من عواقب الاستظهار بالكفار أنهم ما توانوا عن نصرة مسلم استغاث بهم ضد مسلم. وأنهم ما توانوا بعد ذلك عن الكيد لمن استذرى بهم من المسلمين حيث مالوا عليهم في كل آخر المطاف وأحلوهم وقومهم دار البوار!