هذا الديوان يحتوي على قصائد كتبت في فترات زمنية متباعدة، في السبعينيات وحتى العام قبل السابق. والشاعر عثمان أحمد سعيد ارتضى اللغة العامية اللغة الكتابية الشعرية عنده.. والعنوان (بين الوطن والروح) يقسم الكتابة الشعرية عنده إلى واقع الوطن، وواقع الذات وغنائها، وتحليقها، في دنيا وآفاق حرة وخاصةً وله الحق الشعري في ذلك، وهي حشمة، رائعة، ومباحة، وقد استوعبت اللغة العامية هذه القسمة، وأعطت لكل جانب حقه وجمله ومفرداته الشعرية، وهو متمكن من لغته السفرية، في موسيقاها، وتناسق أوزانها، وقدرتها على التعبير الزماني والمكاني.. وأعني بأنه يستلف من المكان ثقافته ومفردته الخاصة، ويوظفها جيداً في الوصف والغزل، تارةً، وفي شعره الذي يناجي فيه الوطن، ويتألم مما يعانيه (ابتسامتك شربكي موية السرابات في التقاني، وقومي جم جدول الحلة المطرف، برتكانة ونخلتين) فالمقارنة والتشبيه، يخضع هنا للبيئة الريفية، حيث المكان نفسه مستحضر في ذات الشاعر، كأنما هو نفسه يتغزل فيه، ومثل هذا الاستدعاء يكثر في ديوان الشاعر، فيكثر في مفرداته الطبيعية (البحر، المزارع، المطر، والنخيل، والبروق، والعروق) بمعنى أن الشاعر عثمان سعيد مسكون بنقاء وأصالة الطبيعة، التي لا توجد إلا في الأمكنة التي يحبها ويستشهد بها ويحن إليها.. والحبيبة التي تحمل أوصاف المكان كانت أيام الزمن الجميل، والريدة والحب بعيدان عن المادية، وأخلاق المدينة.. (وفعلاً لو فرقتنا الدنيا، يمكن تعرفي معنى وفاي، وتعرفي إنو الريد الريدة، ببني البيت زي أحلى قصيدة، وإنو المال ما بدِّي الجنة، وإنو العيشة علاقة وطيدة، وحقو بدل ما نحلم ساكت، قول معاي الريد يا الريدة) والشاعر عثمان أحمد سعيد، يستخدم الحوار مع الآخر، كتأكيد للعلاقة التي يريد دائماً أن يبرهن على صدقها، وقوتها، كصدق الطبيعة وحبها للأمكنة التي يستشهد بها، ويصف بها الحبيبة (لو قلت ليك) (داير أقول ليكم) ويستخدم فعل الأمر لتنبيه الطرف الغافل في العلاقة. (خلينا نخش في الغيمة) (نتلاشى كما قد جينا) (نتكل في القيمة همومنا) (نتناسى الوجع الفينا) وكل هذه الأفعال الجمعية تدعو للتأمّل في الالتئام العاطفي، ونسيان الفرقة والهجر.. وهو نوع من الصدق العاطفي العفوي الذي يدعو الشعر ليكون غنائياً ذاتياً محبباً حتى الملتقى الآخر، ويدعو إلى الفن والغناء لتلحينه؛ لأن المفردة مناسبة وجاهزة للغناء والتلحين، (نسقي لا نمسح) (نزرع) وهي مقدرة في الشاعر لاستخدام أفعال الحركة، داخل القصيدة، حتى يختبر جاهزية المخاطب، لتحمل المسؤولية العاطفية، والتي يأمل الشاعر أن تكون متبادلة ومشتركة؛ ولأن الشاعر واثق من الصدق العاطفي الذي يحمله فإن (الأنا) في نصوصه الشعرية، تحسن بحرارة انفعالها، وعفوية خطابها وتلقائية مطالبها، حتى في سؤالها للآخر، وإجابتها لنفسها عندما تحسن بصمت الطرف الآخر الآخر.. يقول (أنا وحبل الصبر والليل، على العتبات نغنليك) (بقيت أنا والنجوم أصحاب) (أنا عندي زولة بجبها) (وأنا قلبي حر في جنتو) (وعندما يحس بأن الآخر يتجاهله، أو يمس كبرياءه فإن (الأنا) تتحول إلى ذات عنيدة تحاول أن تؤكد قوتها، وعزتها، وهي لا تنكسر أبداً)، يقول (أنا جني جن الزول تريدو، يدس عليكا معزتو، ترفعلوا إيدك بالسلام، يعمل تقيل في لغتو، أنا يا عديل بتحبني، يا كل زول في سكتو) ثم يرمي اللوم على الزمن وتقلباته وتحول ناسه وخاصة الفتاة التي كانت مخلصة للحب.. يقول (والناس بقت سر جننا، مالو الزمان ما هو الزمان، ومالو القلب بقى ما بدق، وإن دق بيدق من عنا، ومالن بنات هذا الزمن، ما بطلعن من زول غنا) (فالشعر توقف؛ لأن الفتاة لم تعد هي نفس الفتاة والحب هو نفس الحب.. وقد كانت الفتاة التي يحبها، تمثل جمال الوطن وشموخه حتى في طبيعته وجغرافيته كان الوطن نفسه قد تغير فتغيرت الحبيبة.. فعيونها كانت تشبه بركة (توتيل) (وحلاوتها خريف بارا) (ولبن بقارة) (وفي عينيها تتمثل له جمال المدن في الأزمنة القديمة) عيونك ياها (بورتسودان) ويمكن (وا) ويمكن (حلفا ما رنجان)، (حجر عسلاية) (منقة كسلا) (هي الحمرة) (رهن هيبان)... بمعنى أن الوطن نفسه تغير، فتغيرت فتياته، لذلك يقارن دائماً بين إنسان المكان القديم والجديد. وللشاعر عثمان أحمد سعيد المقدرة على استخدام مفردات اللغة بالعامية التي تغنى معه، وتتسابق في التعبير عن عواطفه (مشاعره)، النقية والصادقة، بحيث تترادف مع بعضها في أنغام غير شاذة، ولا تشكل نشاذاً مع بعضها البعض، وهي ما يمكن أن نطلق عليه، هارمونية النغم الموسيقا في القافية وفي الموسيقا الداخلية في القصيدة، يقول (اشتقت، من الشوق يخش، في شوقي، يشتاق شوقو شوق، واشتقت لامن شوقي شاق، شوق الشمس شرقت شروق، شقت شعاعات الشفق) (شهق الحمار) (فحرف السين في القافية وفي أواخر الكلمات بشكل موسيقا خارجية ونغمة متناسقة ومتساوقة مع المفردة ومع الجملة الشعرية فيما قبلها وما بعدها، وهي مقدرة تمتلكها اللغة العامية السودانية التي استخرج الشاعر عثمان سعيد كل ما يمكن أن يشكل تعبيراً صوتياً جميلاً في شعره).