تحقيق صحفي قصير نشرته الزميلة «آخر لحظة» في عددها بتاريخ 19 يناير الماضي على الصفحة الاقتصادية، أجرته رشا مهدي حول إغلاق بحيرة النوبة واحتكار جزء من مياهها لصالح مصنع أسماك حلفا، وقالت الصحيفة إن «1000» من الصيادين في منطقة وادي حلفا باتوا بلا عمل بعد صدور قرار قضى بقفل البحيرة أمام عمليات الصيد في الفترة من 10/ 1/2012م وحتى الخامس والعشرين منه، وقال سكرتير اتحاد صائدي الأسماك بالبحيرة إبراهيم موسى «إن وزارة الزراعة والثروة الحيوانية كانت قد أصدرت قراراً بتخصيص المسطح المائي من أرقين شمالاً وحتى نهاية جيمي جنوباً لمصنع أسماك حلفا، مما أدى لإلحاق الظلم بالصيادين الذين يعتمدون على هذه المهنة في معاشهم»، وقال إن الشركة تعاملت مع الصيادين بشروط قاسية، حيث أنها تفرض المزيد من الضرائب والرسوم بالإضافة لإيجار مياه البحيرة لهم. وأبان سكرتير الاتحاد أن قانون مصائد الأسماك لعام 2009م لم يخول لوزير أو غيره حجز أو حجر بحيرة أو مياه صيد لجهة محددة، وأشار إلى أن أسرهم أصبحت مهددة بالتشريد بعد قفل البحيرة وإلغاء التراخيص التي كانت بحوزتهم، وقال إن القرار ترتب عليه ارتفاع أسعار الأسماك في تلك المناطق. وأوردت الصحيفة صورة مجموعة من الصيادين يجلسون على الأرض حائرين بعد أن سدت أمامهم أبواب الرزق، ونحسب أن قرار احتكار مسطح مائي لصالح شركة للصيد يعتبر إضافة جديدة في دنيا عبقرية الاحتكار التي شملت احتكار بعض المحليات للدرداقات وأسرَّة تفرض على بائعات الشاي، بالإضافة إلى رسوم دخول الحمامات في الأسواق ودخولها باب الاستثمار على نطاق واسع، ورسوم عبور لكوبري براميل عائم في إحدى المدن الولائية للمشاة، ولا شك أن هذه الخطوة ستكون محفزة للكاتب الساخر الفاتح جبرا لتوثيقها في سجله الجبائي الذي شمل العديد من المفارقات المليودرامية، منها رسوم اللافتات بالمتر للمحلات التجارية التي كان قد تصور حدوثها باعتبارها محض خيال جبائي أراد به استئناس قرائه، لكن لم يكن يخطر بباله أن ما سطره هو حقيقة ماثلة تعاملت بها بعض المحليات بالفعل، أما هذه القضية فقد يحسمها القضاء لصالح المتضررين، لكن بالطبع فإن احتكار بحيرة لصالح جهة ما ومنع الصيادين البسطاء من رزقهم يعتبر سابقة غريبة ليس في عالم الاحتكارات فقط، لكن في دنيا المعاملات غير الرحيمة تجاه قطاعات ضعيفة تعتمد على سواعدها في الرزق، والغريب أن وزارة الزراعة والثروة الحيوانية هناك قامت باستئناف الحكم الذي قضى لصالح الصيادين، بدلاً من مراجعة موقفها القاسي تجاه هذه الشريحة الكادحة، خاصة أن الصيادين لا يستخدمون أدوات صيد حديثة يمكن أن تؤثر على الرصيد السمكي وبالتالي يمكن أن تحد من إنتاج الشركة، وحتى إذا كان الأمر كذلك لماذا لا يتم الاتفاق مع الصيادين لشراء إنتاجهم من السمك بدلاً من إغلاق البحيرة وإلغاء تصاديق العمل التي مُنحت لهم، لكن بالطبع لا غرابة في هذا السلوك التجاري البحت في زمن تنشط فيه العديد من الجهات بشبق محموم في ابتكارات الجبايات والرسوم والاحتكار على حساب الضعفاء، وإن كانوا بائعات شاي ومالكي درداقات، لكن السؤال الملح هو: أين المجلس التشريعي في الولاية من هذه الأزمة التي تهم عدداً من رعايا الولاية البسطاء؟ وأين حزب المؤتمر الوطني هناك الذي منحته الجماهير بما فيهم الصيادون أصواتها؟ ولماذا لا يتدخل الوالي ويسحب استئناف وزارة حكومته في المحكمة، حتى يتم تنفيذ الحكم لصالح الصيادين؟ نعم إن الاستثمار مهم وتطوير الأدوات والآليات الانتاجية أمر مطلوب في كل المجالات، لكن بالمقابل فإن هذا التحول لا ينبغي أن تدوس تروسه المسرعة مصالح المواطنين، فلا بد من توازن المعادلة بين المصالح العامة والخاصة، دون ضيم وجور، ودون إعلاء لصوت «البنكنوت».