كنت في الصف الأول من المرحلة المتوسطة أي الخامس الابتدائي أرعى أغنامنا الأربع عصر كل يوم في مزارع كافوري المجاورة لسجن كوبر، وذات يوم أخذت معي كتابًا كان مقرراً للصف الأول الثانوي في المدارس المصرية حيث كان ابن عمي المامون يدرس، وفي ذلك اليوم وأنا أقلب صفحات السيرة العطرة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في ذلك الكتاب بكيتُ كما لم أبكِ من قبل، وتعلق قلبي بذلك الصبي اليتيم الذي كان يرعى الأغنام كما كنتُ أفعل وانحفر حبُّه في نفسي وتحدّدت من يومها وجهتي وقبلتي وعقيدتي. قبل ذلك بكثير كان والدي رحمه الله يُحفِّظنا القرآن الكريم ويعلمنا كيف نقدّسه ومعي إخواني وأولاد الجيران.. وكنت أرى في والدي يومياً ذلك الحب الغامر للرسول الحبيب من خلال مدائح (أبوشريعة) التي كان والدي يترنّم بها ويشدو بصوت يعرفه ويذكره أهل كوبر وأهل المتمة وحوش بانقا وكثيرون غيرهم حتى اليوم. في الصف الأول في المرحلة المتوسطة في مدرسة بري الأميرية دخل علينا أستاذ (مصباح) الذي كان مدرِّساً للغة الإنجليزية في حصة غاب عنها معلمها الأصلي، ولن أنسى كيف تلاعب الرجل بعقولنا الصغيرة وحاول تشكيكنا في ديننا وحتى الملائكة والشياطين، وأذكر أني دون الآخرين تصدّيتُ له بالقول.. «لكن يا أستاذ هذه مذكورة في القرآن الكريم» فقد كانت قدسية القرآن حينها مركوزة ومنغرسة في نفسي والحمد لله بما لا يتيح لكائن من كان أن يعبث بها وقد اكتشفتُ في مرحلة لاحقة أن ذلك الأستاذ كان شيوعيًا ملحداً. أذكر أني كنت في المرحلة الثانوية حين دخلت سينما حلفايا في بحري ومعي رفيق الصبا محمد حسن أحمد البشير وبعض الإخوة الآخرين وشاهدنا فيلم (ظهور الإسلام) وفي ذلك اليوم تكرر مشهد البكاء الحار في حضور صحابي الذين دُهشوا وهم يرونني أنتحب من بداية الفيلم حتى نهايته. تلك كانت محطات مهمة في حياتي شكَّلت قناعاتي ورسمت لي معالم الطريق ولا أكتمكم أني أجد مشقة حتى اليوم في مغالبة دموعي حين أسمع نشيد (طلع البدر علينا) الذي أرى من خلاله صور المدينةالمنورة وهي تخرج لاستقبال ذلك البدر الذي انبجس ليضيء الكون (صلى الله عليه وسلم). لعل مما شكّل ذلك الانفعال والانجذاب العاطفي العارم وأشعله في نفسي منذ طفولتي الباكرة أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم نشأ يتيماً لم ير والده وماتت أمُّه وهو في السادسة من العمر ثم ما تحلَّى به من خلق عظيم خاصة الأمانة وما أدراك ما الأمانة. هذا يقودني لتقديم نصيحتي للآباء والأمهات أن أفضل طريقة لغرس حب الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس أطفالهم منذ الصغر تتمثل في سرد قصته مرات ومرات والاهتمام بمكتبة الطفل والتركيز على هذه الجوانب مثل أنه نشأ يتيماً ثم التركيز كذلك على خُلُق الرسول الكريم وأمانته منذ صغره فهذه صفات يتعلق بها الطفل ويفطر عليها قبل أن يكبر ويخضع للمؤثرات الأخرى ويدخل الشيطان إلى حياته عند التكليف. ثم جاء دور القيم العليا التي دعا إليها الإسلام وهو يُرسي أركان الدولة في المدينةالمنورة ثم في مكة وأطراف الجزيرة العربية ويقيم دولة المواطنة على أساس الإسلام وتحت مظلة الشريعة التي تجزم بأنه لا إكراه في الدين وليعيش غير المسلمين في كنف الدولة المسلمة القائمة على قيم العدل المطلق بين الجميع بلا مهادنة أو تنازل عن سيادة الإسلام كشريعة ونظام حياة. كان ذلك مما رسَّخ قناعاتي وطمأنني وزادني يقيناً بانتمائي الفكري لهذا الدين وأنه السبيل الوحيد لحل مشكلات العالم كافة وأن جميع الأفكار والأطروحات الأخرى ما هي إلا مجرد عبث لن يُحرِّر البشرية من قيود الشرك بأنواعه المختلفة لتندرج تحت عبودية الواحد الأحد الله رب العالمين. أعود إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لأقول عنه إنه كان خُلقه القرآن كما وصفته أم المؤمنين (عائشة) التواضع، الكرم، العفو، الأمانة، الإحسان. مكارم الأخلاق.. على أن ما يُدهش بحق في هذا الدين العظيم وهذا الرسول الكريم أن ينزل القرآن الكريم ليُعاتب أفضل الخلق أجمعين وصاحب الخُلق العظيم انتصاراً لأعمى (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) إلى أن يبلغ العتاب منتهاه بقوله تعالى (كلا، إنها تذكرة). لو كان الرسول الكريم مُخْفياً شيئاً من القرآن لأخفى هذه الآية وآيات أخرى يقول الله له في إحداها (فلا تكوننّ من الجاهلين). نحن نحزن ونتألم أن يفجر الصليبيون ويسيئوا إلى أعظم الخلق أجمعين ولا يقدّرونه حق قدره ولكني أود أن أطمئن الأمة الإسلامية بأن في هذا الذي حدث خيراً كثيراً تصديقاً لقوله تعالى في حديث الإفك حين طعن المنافقون في عِرض رسول الله فنزل القرآن (لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم) والله إنه لخير أراه رأي العين في احتشاد الأمة جمعاء خلف رسولها الكريم، فقد رأينا كيف قاطع المسلمون المنتجات الدنماركية، وكيف ارتعبت الدنمارك وأوروبا، وكيف أحجمت الكثير من الدول الغربية عن تكرار صنيع الدنمارك خوفاً من ردة الفعل العنيفة التي حرَّكت المسلمين في كل مكان في العالم. وإذا كانت الدنمارك وبعض السفهاء قد أساءوا إلى رسول الله فقد أساء أشباههم قديماً إلى الرسول الكريم بل إلى الله تعالى مما أشار إليه القرآن الكريم وردّ عليه (إن شانئك هو الأبتر) وكذلك (إنا كفيناك المستهزئين)، لكن العبرة في أن كل فعل يؤلم المسلمين وكل ظلم يلحق بهم يحفِّزهم إلى التشبُّث والاستمساك بدينهم ويُذكِّرهم بأن المعركة مستمرة وأن الصراع بين الحق والباطل قائم إلى قيام الساعة، كما أنه يُحرج قوى التبعية ودعاة ثقافة الاستسلام من المارينز الجدد على امتداد عالمنا العربى والإسلامي. إن الحديث ذو شجون ولن تستوعبه المجلدات الضخمة، ولعل في هذه الشذرات ما يُعبِّر عن حبي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم.