· أما أنا ، فلا أُصَدِّقُ ُ أن القانون حمار ، بل أعتقدُ جازماً أن كل قانون يولد على الفطرة ، فأبواهُ «يُحَمِّرانِه» – أي يجعلانِهِ حماراً – أو «يُبغِّلانِه» أو «يُحصِّنانِه» – يصيرانه بغلاً أو حصاناً ، أو ما شاءا من صنوف البهائم .. وأبو أي قانون هو مشرِّعُه ، و «أُمُّهُ» مُنَفِّذُهُ.. فهذان أبواهُ .. · ولكن عبارة «القانون حمار» أصبحت سائدةً ، وفي حُكم العقيدة ، في مجتمعاتنا العالمثالثية ، والعربيَّة خصوصاً ، وقد قيل لي أن أوَّلَ من أطلق هذه العبارة ، قاضٍ مصري، أيام الحُكم التركي قبل قرنين أو يزيد ، حينما جاءهُ رجُلٌ يحتجُّ على الحُكم بتقسيم «تركته» على أولاده وهو حيٌّ يرزق .. فأبرز لهُ القاضي شهادة وفاته – شهادة وفاة الرجُل الماثل أمامهُ – وقال لهُ : تُريدُني أن أُصدِّقُك ، وأنت رجُل واحد و «مُتَّهَم» ، وأُكذِّب «الحكومة»؟ الحكومة قالت إنك ميت ، وهذه الوثيقة تؤكد لي أنك ميت .. -ولكنني ، يا مولانا ، ماثلٌ أمامك ، وهذه أوراق إثبات شخصيتي !! -أوراق إثبات الشخصية ليس من شأنها أن تُثبِتَ أن صاحبها حي .. مهمتها فقط هي أن تثبت لي أنك فلان ابن فلان ، أما حياتك من موتك ، فشهادة الوفاة دليل كافٍ على موتك.. ولهذا فقد حكمنا بتقسيم تركتك على أولادك ، وقد فعلنا بالعدل وبما يُرضي الله .. -ولكن ، يا مولانا ، أنا ليس عندي أولاد !! وعندي شهود على ذلك !! ألم تلاحظ أن أولئك الذين زعموا أنهم أولادي ، هم أكبرُ مني سنَّاً ؟ -نعم ، لاحظتُ ذلك ، ولكنني لا أستطيع أن أفعل لك شيئاً .. فالقانون هو الذي فعل بك ما فعل وليس أنا !! -هل يعني هذا أنك مقتنع بأنني حيٌّ أُرزق، وبأنهُ ليس لديَّ أولاد ؟؟ -نعم .. أنا مقتنع .. ولماذا ، إذاً ، حكمت بتقسيم تركتي وأنا حيٌّ ، على أُناسٍ ليسوا بأولادي؟؟ لستُ أنا الذي حكم .. الذي حكم هو القانون!! -ولماذا حكم القانون؟؟ -لأنَّهُ ليس مقتنعاً ، مثلي، بصدقك!! -ولماذا لا تُقنِعُهُ أنت ، يا مولانا؟؟! -«ما بيقتنعش»..القانون حِمارٌ ، يابني !! ·هُنا سكت الرجُلُ قليلاً ، ثُم قال : -صحيح القانون حمار ، واللي بيركبه بغل !! -ماذا؟ هل تُهينني؟؟ تُهين رجال القانون؟! حاشاك يا مولانا ، أنا أُهينُ – فقط – رجال «الحمار»!! · هذا ، وكان ابن «دُفعتي» ، موسى ، قد تقدم بشهادته الثانوية إلى كلية القانون ، بجامعة القاهرة الفرع «إسمها جامعة النيلين ،اليوم» ، فلم يقبلوهُ ، بل قبلوه بكلية الآداب ، فغضب ، وقرَّرَ أن ينتقم لكرامته التي أُهدرت.. · انتظر حتّى «مغربت»الدنيا ، وقلَّت أرجُل السابلة ، ثم انتحى ناحيةً من سور الكلية التي أهانته ، وبيده قطعة «فحم» ، فكتب (كلية ..) ثم رسم أمام الكلمة حماراً فارهاً ينهق – وموسى هذا كان رساماً حاذقاً – ثم جلس بعيداً ينتظر ردود فعل المارة الذين قد يبصرون ما فعل ، غير أنهُ ، لخيبة أمله ، لم يلحظ أحدٌ فعلته ، حتى انتصف الليل ، فمضى إلى داره ، ليأتي مع الفجر ، ويرى ماذا فعل الله برسمته .. فوقف بعيداً ينظُر وينتظر .. · قال لي ضاحكاً – وكنتُ يومها طالباً بذات الجامعة بكلية العلوم - : كان الناس يمرون دون أن يلحظوا شيئاً .. حتى جاء مارَّاً من تلك الناحية «بائع لبن» على حمار يُشبه ذلك الذي رسمته ، كان هو الوحيد الذي يبدو أنه انتبه للرسم ، فأوقف حمارهُ ، ثم أخذ خرقةً كانت معهُ ، وقام بمسح صورة الحمار ، تاركاً كلمة «كلية» كما هي ، ثم مضى!! · هذا ، ولم يفهم موسى ، حتى اليوم ، ولا أنا فهمت ، لماذا فعل بائع اللبن ما فعل؟ هل فعلها انتصاراً لكرامة «القانون»؟ أم انتصاراً لكرامة «الحمار»؟؟