د. مزمل أبو القاسم للعطر افتضاح *(ما جرى في السودان مؤخراً ثورة شعبية وليس انقلاباً عسكرياً).. وردت تلك العبارة في على لسان سعادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان في حوار تلفزيوني أجراه أمس، ومنها نبدأ، ونذكر أن المطالب الواردة في ثنايا إعلان الحرية والتغيير حددت مسار الثورة، ورسمت أهدافها منذ شهر يناير الماضي. *ذكرنا في هذه المساحة من قبل أن إصرار المجلس على احتكار السلطة السيادية سيؤدي به إلى الاصطدام بقوى الثورة عاجلاً أو آجلاً، وقد كان. *لم يتطفل الجيش على الثورة، بل حماها، وقدم الشهداء في ساحاتها، ومن ذلك المنطلق يصبح مقبولاً وجائزاً له أن يشارك بفعالية في إدارة المستوى السيادي للسلطة، لكن من غير الجائز ولا المعقول أن يسعى إلى الانفراد بها، بمناوراتٍ غير مفهومة، تقودها لجنة سياسية مُتعنِّتة، تُصر على إشراك من سقطوا مع الإنقاذ في إدارة المرحلة الانتقالية، برغم أنف الشعب، الذي رفض تلك القوى، وركلها مع شريكها الأكبر. *لا يجوز قطعاً أن تتم مساواة قوى الحرية والتغيير مع أحزاب الفكة، ومكونات حوار الوثبة، الذي أثبتت الأيام خطله وفشله، وتسبب في سد الأفق السياسي، حتى أودى بحياة الإنقاذ. *المسببات التي دفعت المجلس العسكري إلى إبعاد المؤتمر الوطني عن المشهد السياسي الحالي تنطبق تماماً على القوى التي قاسمته الحكم، وساندته على حساب الشعب، حتى سقطت معه في الليلة الأخيرة. *ينبغي على المجلس العسكري أن يكف عن إرباك المشهد السياسي، وتعقيد المُعقَّد، بحشده لقوى سياسية لم يكن لها أي سهم ولا دور حقيقي في ثورة الشعب على نظام القهر والتسلط. *عليه أن يُحكِّم صوت العقل، ويشرع في سداد مطلوبات مرحلة التحول السياسي كاملةً، وأبرزها قبول مبدأ مشاركة المدنيين في كل مستويات السلطة، والكف عن محاولات احتكار المستوى السيادي، لأن تلك المساعي ستدخل البلاد في دوامةٍ خطيرةٍ، وتتسبب في تفتيت وحدتها، وتهديد أمنها، المهدد أصلاً. *الشارع الذي أطاح بالإنقاذ لن يقبل ذلك الاحتكار، لأنه لم يَثُر على البشير ليسلم أمر الحكم إلى الجيش منفرداً، ولم يستبدل جنرالاً كي يقبل بحكم مجموعة من الجنرالات، من دون أدنى مشاركة للمدنيين في السلطة السيادية. *نعلم أن بعض القوى الإقليمية مجتهدة في حض المجلس على الانفراد بالحكم، وأنها بذلت له الوعود، وقدمت له حلو الأماني، والتزمت بدعمه اقتصادياً وسياسياً، كي يتجنب الدخول في عُزلة دولية، تنفيذاً لأجندةٍ تخصها. *يمكن لتلك المساعي أن تساعد المجلس على تجاوز العزلة الدولية، لو أصر على الانفراد بالسلطة السيادية، لكنها ستصيب البلاد بأضرارٍ لا يمكن تلافيها داخلياً، لأن قبول قوى الثورة بانفراد المجلس بذلك المستوى صعب، إن لم يكن مستحيلاً. *أخطر ما حدث بالأمس يتمثل في إقدام المجلس العسكري على منع الفضائيات السودانية الرسمية من تغطية المؤتمر الصحافي لقوى الحرية والتغيير، لأن ذلك القرار يؤذن بالدخول في دكتاتورية جديدة، ويشير إلى تبرمٍ غير حميد بالرأي الآخر. *ذاك عن المجلس العسكري، أما المكونات الثورية، ممثلةً في تجمع المهنيين، وقوى إعلان الحرية والتغيير فننتظر منها أن تمارس بعض الحكمة، وتمد حبال الصبر، من دون أن تتسرع في اتخاذ مواقف متشددة، تقطع بها شعرة معاوية مع المجلس. *نتفهم إقدامها على انتقاد اللجنة السياسية للمجلس العسكري، لأن ما تفعله لجنة زين العابدين غير مفهوم ولا مقبول، لكننا لا نستوعب إقدام تلك القوى على قفل أبواب التفاهم مع المجلس كله، لأن تلك الخطوة ستعني دخول البلاد في دوامة خطيرة، وستمنح المتربصين بالثورة فرصة أكبر لاستهدافها، وتعطيلها عن بلوغ غاياتها. *النهج الذي أدارت به قوى التغيير مؤتمرها الصحافي أتى دون مستوى الطموح، بتحويله إلى ما يشبه أركان النقاش الجامعية، وبتقديم متحدثين يفتقرون إلى أبسط القدرات اللازمة لمخاطبة الحشد المليوني، الذي تجمع في ساحة القيادة. *من يرغب في تمثيل الشعب ينبغي له أن يحسن اختيار ممثليه أولاً، ومن يريد من الثوار أن يستمروا في مساندته كي ينتزع حقوقهم عليه أن يُعنى بدءاً بتقديم نفسه، وتدبيج خطابه السياسي بنهجٍ يليق بأعظم ثورة. *مدوا حبال الصبر، وحكموا صوت العقل، ولا تغلقوا أبواب التحاور مع المجلس، تقديراً لحرج الظرف، وصعوبة المرحلة.