حينما كنت طالباً في المدرسة المتوسطة في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي بمدرسة "الحاجز" الواقعة جنوب كردفان مجلس ريفي شمال الجبال، كنت أدخر من قلة (المصاريف) أو (المصاري) باللهجة الشامية لشراء كتاب من مكتبة "أحمد عبد الله الصفراوي" الواقعة في قلب سوق الدلنج بالقرب من دكان "أولاد الصول"، ودكان الخواجة "يوسف شامي".. وفي الواقع الرجل من بلاد الإغريق (اليونان)، وإذا كان الإغريق قد اشتهروا بالفلسفة والتجارة فإن نساء الإغريق من أجمل نساء الدنيا، وقد شهد بذلك شاعرنا "محمد سعيد دياب" الذي سحرته فتاة تمثل مزيجاً وهجيناً ما بين (الأمهرا) في الحبشة والإغريق في أثينا.. ونصف السودانيين يحفظون قصيدة "مادلينا" الأم سليلة أمهرا والوالد من قلب أثينا. كنا في سنوات الصبا الباكر نباهي ونفاخر بعضنا بقراءة روايات "إحسان عبد القدوس" و"نجيب محفوظ" و"محمد عبد الحليم" إضافة للأدب المترجم والأشعار التي تنشرها مجلة الإذاعة والتلفزيون والمسرح.. وفي إحدى الزيارات لمكتبة "صفراوي" ، وهو شيخ بهي الطلعة قارئ للأدب والسيرة والفقه، ينحدر من شمال السودان، شلوخه مثل شلوخ رجل الأعمال "محمد إبراهيم حماد" الدنقلاوي الأنصاري ،الذي أقعده المرض في السنوات الأخيرة، لكن ما تزال همته وشجاعته وكرمه الفياض يدفق العطاء في جسد الدلنجالمدينة.. أشار "الصفراوي" بشراء ديوان شعر للشاعر "محمد سعيد العباسي"، و"صفراوي" عينه بصيرة وحسه رفيع رغم تعليمه النظامي الذي لا يتجاوز الأولية، لكنه تعلم من جامعة الكتاب المبذول.. وتخرج بمرتبة الشرف مثل الحاج "مدبولي" ،صديق السودانيين رحمة الله عليه والبركة في أحفاده وأبنائه، وقد كان "مدبولي" مثقفاً أكثر من وراق مثل "أحمد سعيد الفاني" في تونس.. وجدت في ديوان "العباسي" الذي احتضنته برفق وحملته كامرأة وضعت جنينها الأول ، وجلست بين جوالات الخيش التي تمتلئ بالعرديب.. والتبلدي والسمسم والسعف ،الذي يأتي من الصعيد البعيد، لتصنع منه النساء البروش.. ولوري (ملك) أشهر سائق لعربة "التيمس" تهفو إليه قلوب الفتيات وهو يضغط على دواسة الجازولين وتصدر العربة صوتاً موسيقياً يثير شجون مرتادي ركوب اللواري والكمسنجية والعتالة والكماسرة في الأسواق.. انشغل أغلب الركاب (بعفشهم) وحصيلة السوق من البصل الأخضر واللحوم.. والمترفون منهم تبضعوا حتى بالباسطة، التي لا يمكن لأمثالنا تذوق طعمها. أخذت التهم أبيات ديوان "العباسي".. يغيب عني فهم بعض الأبيات والكلمات فأضع تحتها خطاً في انتظار الغد ليقوم الأستاذ "محمد فضل الله" (دلك) بشرحها.. من القصائد التي حفظتها على ظهر لوري (ملك) منذ الثمانينيات ولم تسقط من ذاكرتي مثل كثير من الأشعار التي تساقطت، تلك القصيدة التي تضع مدينة النهود في مصاف مدن مثل صقلية والكوفة.. والواحات في الجزائر مع أن الشعر القديم لم يهتم كثيراً بذكرى الأمكنة والأودية والبطاح وإلا لأصبح شعر "أبو الطيب المتنبئ" أطلساً لجغرافية سوريا الحديثة ،فك الله أسرها من أنياب "الأسد"، وحاسد وما حسد.. يقول "العباسي" عن رحلته لمدينة النهود: باتت تبالغ في عذلي وتفنيدي وتقتضيني عهود الخرد الغيد وقد نضوت الصبا عني فما أنا في إسار سعدي ولا أجفانها السود وتبلغ بي النشوة حد السكر والطرب حينما تبلغ القصيدة أبيات تقول: أثرتها وهي بالخرطوم فانتبذت تكاد تقذف جلموداً بجلمود تؤم تلقاء من نهوى وكم قطعت بنا بطاحاً وكم جابت لصيخود نجدُّ يرفعنا آل ويخفضنا آل وتلفظنا بيد إلى بيد حتى تراءت لحادينا النهود وقد جئنا على قدر حتم وموعود (2) لأنها سنوات الصبا فقد كانت الذاكرة صافية والذكاء متقدا وسعة (المخ) خالية.. ظللنا نردد كلمات "العباسي" اليوم مثل قصيدة الشاعر الليبي "أحمد رفيق المهدوي" ،الذي لفظه الاستعمار وطرده بعيداً عن وطنه.. والمدن التي خلدت في الذاكرة الجمعية للأمة ورد ذكرها إما في كتب التاريخ مثل الكوفة والبصرة.. وتلمسان.. والقيروان وصقلية وغرناطة والأندلس، قبل أن يخرج الإسلام من بلاد الأسبان خروجاً لم يجد له المؤرخون تفسيراً، فالإسلام ما دخل بلاد إلا وأقام بها، عدا أسبانيا التي خرج منها كالشعرة من العجين، وقد تحسر الدوائي التونسي "البشير خريف" صاحب رواية (الدقلة في عراجينها) وهي من الروايات التي وصلت إلى كل بيت وقرأها الناس عامتهم وخاصتهم.. وحسرة "البشير خريف" على خروج الإسلام من أرض الأسبان أدمعت لها مقلتيه حينما رثى نفسه.. والأمكنة التي يرد ذكرها في الأشعار تتجاوز الحدود.. وتكسر قيد الجغرافيا (طق)، ومن تلك المدن النهود التي تغنى بجمالها وحسانها شاعر آخر هو "محمد أحمد المحجوب" رئيس وزراء السودان الذي كان مشغولاً بوحدة العرب وجبر خاطر "عبد الناصر" المهزوم أكثر من انشغاله بفرض وحدة بلادنا السودان.. عن النهود كتب "المحجوب" قصيدة (غزلية) وقد ترك صديقه ينام في رمال الخوي وأسرع هو بالسيارة اللاندروفر نحو نادي السلام بالنهود ، الذي كان يحتضن ليلة أدبية، وقال "المحجوب" لصديقه الذي لا يعرف سره إلا اثنان شيخ العرب "محمد أحمد الطاهر أبو كلابيش" ومولانا "جبر الله خمسين فضيلي" وقال: (ناس مرقدها النهود وناس مرقدها الخوي.. لو كنت تعلم ما بالنهود لطويت الأرض طي). (3) كان "المحجوب" يقطع الأودية والبطاح يرفعه آل ويخفضه آل وتلفظه بيد إلى بيد حتى بلغ النهود من أجل المشاركة في ليلة شعرية بنادي السلام.. و"المحجوب" رئيس الوزراء أضاع كثيراً من الوقت في مهرجانات الأدب، وكان يهتم بالبلاغة أكثر من اهتمامه بالمعاني.. والسودانيون في تلك الحقبة التي أعقبت رحيل المستعمر واتخاذ الرعيل الأول من السياسيين قرار الانضمام إلى الجامعة العربية كانوا حريصين على إثبات عروبتهم أكثر من حرصهم على لملمة جراحات وطنهم وجمع شعثه ووقف نزيف دمه، وقد أدى النزيف في خريف العمر لانقسام الوطن الواحد لوطنين.. ونحن في صبانا الباكر في القرى القصية نمني النفس برؤية المدن التي جملها الشعراء والمغنين.. وكان من دفعتنا في المدرسة الابتدائية طالب يدعى "هابة جمعة" من منطقة السنجكاية، كان يباهي بأن مروي التي تغنى بها الفنان "عبد الكريم الكابلي" قد اكتحلت عيناه بنخيلها وخضرة أرضها وبياض بشرة أهلها.. مثلما كان يباهي المهندس الحالي "إسماعيل عوض الله"، بأنه قد زار كسلا غرب القاش التي خلدها شعراً "إسحق الحلنقي".. وزرعها روعة في النفوس "زيدان إبراهيم" وسقتها في العصر الحديث "روضة الحاج" عطراً وجمالاً.. وكل جمعة والجميع بخير.