الإقالة أو الاستقالة، أدب لم يعرفه المسؤولون في السودان إلا نادراً، ومهما ارتكب المسؤول من خطأ فادح يظل متشبثاً بالكرسي ولا يعنيه كلام الناس بقدر ما يجد مبرراً للأخطاء التي يرتكبها. في مجال الصحافة تكثر إقالة الصحفيين بسبب ارتكابهم لأخطاء فادحة، وإدارة الصحيفة تعتبر الأخطاء المرتكبة تؤدي للإقالة، وأذكر إبان فترة الرئيس الراحل "نميري" كثيراً ما أُقيل الصحفيون بسبب وضع صورة بالخطأ ظناً من الصحفي أن الصورة التي وضعها مع خبر للرئيس بالصفحة الأولى صورة له، فيكتشف عند صدور الصحيفة أن الصورة المصاحبة لخبر الرئيس صورة لشخص آخر، فيُقال الصحفي في الحال، أو ربما يذهب مباشرة وبدون عودة للصحيفة عندما يكتشف أنه ارتكب خطأً في الصورة أو الخبر، وأذكر أن الزميل "أسامة عوض" إبان عملنا بصحيفة (الأنباء) وقبل مراجعتها، صعد أعلى السلم للبس حذائه فاستعجله الزملاء بالإسراع لأن الوقت قد تأخر، وعندما حاول مراجعة الصفحة الأولى، أشار إليه الزملاء بأن الصفحة سليمة ولا تحتاج إلى مراجعة، ولكن في اليوم التالي صدرت الصحيفة ولم تكن الصفحة الأولى التي أشرف عليها الزميل "أسامة عوض"، فطبع المصمم صفحة من أيام خلت، فكانت كارثة، فتم خصم خمسة عشرة يوماً جزاء لذلك الخطأ. فالصحافة تتخذ القرارات الفورية تجاه أخطاء الزملاء، ولكن الدولة لا تقيل المسؤول مباشرة، بل تجد له العذر إن لم يجد لنفسه العذر. فالطائرة التي استشهد فيها نفر كريم من أبناء هذا الوطن بمنطقة "تلودي" أول أيام عيد الفطر المبارك تحمَّل مدير الطيران المدني المسؤولية، فدفع باستقالته لوزير الدفاع باعتباره المسؤول المباشر عنه، ومن ثم رفعها لرئيس الجمهورية. إن ما قدمه المهندس "محمد عبد العزيز" أدب جديد في تحمل المسؤولية عن الأخطاء التي ترتكب، ويجب أن يتحمل المسؤولية كاملة، ولكن مثل تلك الاستقالات تواجه بالرفض من جانب الدولة باعتبار أن الذي حدث قضاء وقدر وليس الشخص المسؤول هو الذي ارتكب الخطأ، فيطيب خاطره وترفض استقالته، ويكون قد بادر بتقديم الاستقالة قبل أن يُقال، وقد سبق المهندس "محمد عبد العزيز" من قبل الباشمهندس "عبد الوهاب عثمان" وزير الصناعة، عندما أعلن عن الاحتفال بتشغيل مصنع "سكر النيل الأبيض"، ولكن اكتشف أن هناك خللاً لن يساعد على الافتتاح في اليوم الموعود، فكان "عبد الوهاب عثمان" شجاعاً في تقديم استقالته، والمهندس "عبد الوهاب" زاهد في الدنيا ونعيمها ومتفانٍ في عمله، ولكنه لم يتأكد من الفنيين قبل إعلان الافتتاح، ولذلك جاء رفض الرئيس لتلك الاستقالة باعتبار أن الوزير ليس مسؤولاً عما حدث، وحُملت المسؤولية لأمريكا التي لم تعطِ شفرة التشغيل. كما سبق الباشمهندس في تقديم الاستقالة الباشمهندس "شريف التهامي" وزير الري آنذاك في العام 1997م إن لم تخنِ الذاكرة عندما حدث خلاف بينه والدكتور "عصام صديق" وزير الدولة بالري حول بعض العطاءات، فتقدم الدكتور "شريف التهامي" باستقالته أو أُجبر عليها، ولكنها كانت بادرة طيبة أن يتحمل الوزير المسؤولية كاملة حتى ولو لم يرتكب الخطأ طالما الوزير هو المسؤول الأول. في كل الدنيا أدب الاستقالة موجود عند ارتكاب أي خطأ، ولكن المسؤولين السودانيين ينبغي أن تتخذ الدولة قرارها بالإقالة بدلاً عن الاستقالة، وهناك وزراء ارتكبوا أخطاء فادحة، فآثروا الصمت على فعلتهم، وباشروا أعمالهم دون أن تطالهم الإقالة، فأخطاء الطيران المدني لن توقفها استقالة "محمد عبد العزيز" أو الذي يليه.