هل سمعتم بالكاروشة ؟ إنها ذلك الشيء الذي يصيب البعض في الاجتماعات الطويلة، والمؤتمرات المملة، والاحتفاليات التي تمتلئ بالخطابات الزاخرة بكل شيء .. إلا بما يفيد !! قلت لقرائي من قبل، إنني لا أحب التورط في الاجتماعات، لأن معظم ما يدور فيها يكون روتينيا، ومكرورا، وكثيرا ما أضطر للانسحاب أثناء الاجتماعات، وخصوصا حين يكثر فيها التنظير والحديث من فئة (أم ضبيبينة) ! أصدقائي، بالمناسبة، يعرفون هذه الصفة في شخصي، لكنني أصاب بالحرج حين يكون الأمر بعيدا عن الأصدقاء، فإذا تورطت في اجتماع من النوع إياه، فإنني أحتاط منذ البدء بدراسة المكان، واختيار الموقع المناسب للتسلل الهادئ، في حين يكون القوم غارقين إلى آذانهم .. في الرغي والحديث الطويل ! أظن أن الكثير من وقت الناس، ووقت الحكومات، ووقت الجهات التنفيذية .. يضيع في الاجتماعات التي تفضي إلى .. لا شيء (!)، وأظن أن الاجتماعات، والمؤتمرات، وغيرها من الاحتفائيات الزاخرة بالمتحدثين الأماجد .. هي مكان مفضل لمحبي العكننة على الآخرين .. بحديثهم الذي لا يعرف الكلمة وسد غطاها، بل يجدون المايكرفون وسيلة عظيمة ليتلذذوا بسماع أصواتهم .. في حين يكون الآخرون من أمثالي جالسين متحرقين للهرب في أقرب سانحة ممكنة ! لو كنت صاحب قرار .. لأصدرت أمرا بمنع الاجتماعات الدورية والروتينية، ولجعلت الاجتماعات محصورة في المستجدات المهمة، والخطط الجديدة، ولقمت بمعاقبة أي مسؤول يضيع وقت الناس، ووقت المراجعين، ووقت المراقبة لأداء الجهاز الذي يعمل فيه، عن طريق اجتماعات لا تغني ولا تسمن عن جوع ! كما أنني لو كنت صاحب قرار، لأصدرت قرارا بعدم عقد الاجتماعات .. إلا إذا كان هناك سبب وجيه لها .. يراه المسؤول الكبير جديرا بعقد اجتماع، على أن يكون زمن الاجتماع محصورا في أضيق وقت ممكن، والتداول فيه يكون بإيجاز وتكثيف، والمتابعة للتنفيذ تكون فاعلة .. ومستمرة .. حتى لا يكون الاجتماع وسيلة للتراخي، وإضاعة الوقت، وإهدار الكهرباء بتكييف الاسبليت والمراوح، وإهدار المال بالمرطبات وماء الصحة .. وصحون التمر والمكسرات ! منذ زمن طويل .. حضرت عرضا سينمائيا يظهر فيه مسؤول كبير .. لا يكل ولا يمل من حضور المناسبات الخطابية، ويحرص على الزج باسمه وسط المتحدثين بأي محفل . وقد كان هناك حفل خطابي نظمته إحدى الجهات، وكان المشرف على الحفل يعرف مدى ثقالة دم صاحبنا، فتركه يتحدث في البدء قبل أن يفقد الناس طاقتهم على الصبر، لكنه لم يعلم أن تقديم ذلك الشخص .. جعل الحاضرين كلهم يولون الادبار قبل الورطة، حيث لم يبق في القاعة سوى المدعوين للتحدث !! مثل هذه المناسبات، هي التي تصيبني وكثيرين غيري بداء الكاروشة، وهو داء معروف، وشديد الإزعاج، ومن العجيب أن السودانيين كانوا يحتفون بهذا الداء قبل عقود مضت، فالمخضرمون يعرفون أن هناك رقصة كان اسمها (الكاروشة)، حيث يقوم الراقصون والراقصات ب (الهرش) أثناء الرقص بطريقة هستيرية، في حين يصدح المغني وهو يردد (يا حاجة دقي لينا كاروشة) ! أظن أن الأغنية بحاجة لتسجيلها في كل اجتماع فارغ، على الأقل ليتشارك القوم (الهرش) .. كلما طفا الكلام .. وأغرق الناس في لجته الهوجاء !