كثيرا ما أقول لأصدقائي إن الفرح صناعة، فهو لا يهطل على الناس من السماء، بل لا بد من قدرة على صياغته، وإلا فلن يفرح الناس أبدا ! الحالة السودانية مليئة بالأحزان، أحزان وطنية، وأحزان سياسية، وأحزان اجتماعية وإنسانية، هذا عدا الأحزان العاطفية والمادية والمعيشية وما لف لفها !! السودانيون أكثر الناس حاجة لإقامة مصانع عملاقة للفرح، مصانع تقدم إنتاجا يوميا ضخما .. يحاول أن يجاري فيضانات الأحزان، ويذيب بعض شحومها المتراكمة طبقا عن طبق ! لكن صناعة الفرح، رغم ركام الأحزان، تظل معدومة بالكامل في السودان . فالناس حتى الآن، لا يجدون المرافق الترفيهية التي يمكن أن تجاري جبال الهموم المحيطة بالمواطن، وما زال الناس في العاصمة يتحدثون عن مسارح محدودة جدا، تقدم برامج متباعدة في أزمانها، ولا تتناسب مع مدينة ضخمة يزيد عدد سكانها عن سبعة ملايين نسمة ! الناس في العاصمة، بل وفي كل أقاليم السودان، يترحمون الآن على دور السينما التي أصبحت أوكارا، وأضحت أثرا بعد عين، ويتحدثون بحسرة عن الخرطوم بالليل والتي كانت لا تعرف النوم، وتزدهي بحركة الناس والمركبات، وتفوح من مطاعمها روائح الشواء وحركة الرواد في الساعات المتأخرة من المساء. في عاصمة عربية قريبة، كنت وبعض أفراد أسرتي في جولة مسائية، وقررنا أن نختم يومنا بعرض سينمائي في إحدى الدور، وعندما ولجنا دار العرض .. كان واضحا أن العاملين في المكان كانوا ينوون المغادرة لتأخر الوقت، وعندما رأونا .. سارعوا بالموافقة على عرض إضافي خاص، وقاموا بتشغيل التكييف في الصالة مجددا، واستمتعنا بأحدث فيلم كان يعرض وقتها في دور السينما ! حتى ثقافة الفرح تبدو شديدة التراجع في السودان . . ولا أظن أن هناك شعبا يحزن في أعياده، بل ويقيم المآتم على الراحلين السابقين في الأعياد .. سوى الشعب السوداني، حيث يحيل الكثيرون العيد لحزن تبلله الدموع، بل وكثيرا ما يرتفع النحيب والبكاء المر عاليا في الأعياد حزنا على من رحلوا، في حين أن العيد مناسبة فرح، كان يمكن اصطياد سويعاتها القليلة لصناعة فرحة .. قد لا نعيشها مرة أخرى أبدا ! حتى مدن الملاهي .. تبدو (مخزية) قياسا باحتياجات البلاد، فلا السلطات مقتنعة بأهمية مثل هذه المرافق، ولا المواطن مهتم بوجود هذه المرافق، فالمسألة حين تتعلق بين اختيار الرغيف، واختيار الترفيه، فلن يبقى طريق للترفيه، في بلد ترتفع فيه قيمة كل شيء .. إلا الإنسان ! والفرح حين يعجز عنه الناس .. تبقى مهمة السلطات أكبر تجاه المواطن .. لأنها تصبح هي المعنية بصناعة هذه الأفراح، بحيث تكون أفراحا حقيقية .. لا أفراحا سياسية شديدة الزيف .. تمجد أشياء سئم الناس الحديث عنها، ولا أفراحا تتحدث عن ماض تآكلت ذكراه بفعل السنين والهزائم النفسية اللاحقة .. بل أفراحا واقعية وحقيقية، يعيشها الناس واقعا لا خيالا ! ثقافة الفرح مهمة الناس، ومن تلك الثقافة تتحول الأفراح لصناعة .. تزدهر، وتثمر، وتكون جزءا من نماء الوطن، لكن الأحزان حين يتراكم جليدها، فلابد أن تتدخل الدولة .. لتصنع الفرح أيضا، ما دامت قد بادرت وأجادت .. في صناعة الأحزان لكل الناس !