دون أن نشعر .. أصبح الاستقلال مناسبة روتينية .. وأصبح الفرح مسجونا في الإعلام الرسمي، وفي الحكومة وأجهزتها .. في حين يفرح الناس فقط .. بالإجازة .. وبرأس السنة الذي يتزامن معها ! لماذا تحولت فرحة الاستقلال إلى هذا المظهر الباهت ؟ ولماذا لم يعد الناس يهنئون بعضهم البعض بذكرى الاستقلال، وقد رأينا آباءهم يذرفون الدموع فرحا بإعلان الاستقلال، وشهدنا في الأفلام الوثائقية الجموع يملأون الكون بهجة وحيوية وترحيبا بالاستقلال الثمين ؟ الأجيال الحالية .. لم تعش فترة الاستعمار، ولم تتعامل مباشرة مع المستعمر، وكل ما تعرفه هو ما تتابعه من أخبار التاريخ وروايات الذين عاشوا تلك الفترة . لكن ذلك لا يقف أو هكذا يجب حجر عثرة أمام فرحة الناس باستقلالهم، فالاستقلال يعني امتلاك الإرادة الوطنية، وحرية اتخاذ القرارات فيما يخص شؤونهم، والتمتع بثمار أرضهم، والعمل بما يرونه لصناعة مستقبلهم ورسم ملامحه . معاني الاستقلال .. كانت جلية في نفوس الآباء، ولذلك توحدت إرادتهم لصناعته، وتكاتفت جهودهم لتحقيقه، فكانت فرحتهم به عظيمة .. فلا يعرف الشوق إلا من يكابده .. ولا الصبابة إلا من يعانيها ! لا نعرف كيف بهتت الصورة .. وكيف تحول الاحتفال العظيم إلى احتفالية رسمية .. فلم يعد من ذكرى للمناسبة في القلوب .. سوى ما تحتويه من مضامين الإجازة .. والاحتفاء برأس السنة ! بكل مرارة هذا ما نلحظه، ولولا وجود رأس السنة متزامنا مع الاستقلال .. لما بقي وجه للفرح .. إلا على الأصعدة الرسمية .. والتي تؤدي عملها الفرحي بهذه المناسبة .. كواجب لا بد من القيام به. أظننا بحاجة لصياغة محفزات للمشاعر .. تحيل المناسبة إلى فرحة حقيقية .. تستنهض الروح الوطنية في الناس، وتحفز الهمم، وتكشف المكتسبات التي تحققت من الاستقلال، وتعترف بالأخطاء والعثرات التي جعلت البلاد بعيدة عن تحقيق الثمار المرجوة، مع إقناع الجميع بأن كل الإخفاقات التي حدثت .. هي أقل شأنا من نير الاستعمار وذل العبودية للغرباء . مهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة، فالناس تتحدث عن مكتسبات تحققت أيام الاستعمار .. فأصبحت كالصريم بعد ستة عقود من خروج المستعمر، والناس تتحدث عن وطن كان ممتدا لمليون ميل مربع لا تنقص شبرا واحدا حين خروج المستعمر، وتشير بأسى لواقع نعيشه الآن .. وخارطة اختفى جزء منها .. ولا تقف بقيتها بمعزل عن مخاطر التمزق من جديد . نعم .. المهمة صعبة .. لكنها ليست مستحيلة . نحن بحاجة لإعادة المنهج الشعوري للناس .. بحيث يصبح الاستقلال قيمة روحية ومعنوية، تتسامى عن اخفاقات السياسات اللاحقة، ليتنامى إحساس الناس بأنهم كانوا بلا إرادة حقيقية قبل الاستقلال، فأصبح لهم علمهم وإرادتهم وكيانهم الوطني، وأن أخطاء الممارسة .. وتنكب الطريق مرات ومرات .. لا تبخس الاستقلال حقه في الاحتفاء، ورمزيته في النضال الوطني ووحدة الإرادة .. ورص الصفوف لتحقيق الأحلام الكبرى .. في وطن يسوده الأمن والرخاء والكرامة لكيانه وإنسانه . نحن بحاجة لمنهج وطني .. يبعث المضامين الحقيقية للاستقلال من مرقدها .. ليفرح الناس فعليا باستقلالهم، بدلا من أن يذوب فرحهم .. بمتعة الإجازة .. والسهر الطويل احتفاء بمطلع العام الجديد .