الاستثمار ليس قوانين فقط، ولو كانت المسألة مجرد قوانين، لوجدنا أموال الدنيا كلها تركض نحو السودان، وتحل أزماته، وترفع من اقتصاده المتهالك ! الاستثمار يحتاج مناخا متكاملا، يمر عبر الاطمئنان، ثم البنيات التحتية، فبوابة الثقة الكاملة في توفر العائد بالعملة الأجنبية دون (جرجرة) ! القانون الجديد لتشجيع الاستثمار .. والذي صادق على مشروعه مجلس الوزراء قبل يومين، يكشف بأن القانون السابق كان فاشلا، وهذا ما يجعلنا نتحسر على جهد عظيم استمر سنوات طويلة لإقناع الآخرين كي يستثمروا في السودان، فجاءت وفود، وذهبت وفود، وتم إهدار الأوقات الطويلة في الاجتماعات والضيافات والشرح والإقناع، كما تم منح الأراضي .. والتسهيلات .. والمزايا الجمركية، ودخلت العديد من السيارات من بوابة الاستثمار، ومعها طبعا الكثير من السلع الرأسمالية الخاصة بالعملية الانتاجية وغيرها .. ليكون قانون تشجيع الاستثمار الجديد .. شهادة وفاة بعد تأكد الموت الدماغي لكل ذلك الذي جرى ! لا أعرف بلدا في الدنيا يغلق أبوابه أمام الاستثمار الأجنبي، وحتى أمريكا وأوروبا، وكذلك دول الخليج النفطية .. كلها تشجع استقطاب الاستثمارات الأجنبية، وتقدم التسهيلات الحقيقية والنافذة لتشجيع ذلك الاستثمار، ولذلك تتدفق عليها الأموال المستثمرة من كل ناحية وصوب. لكن تلك الدول لم تكن تستند لقوانين مثالية لجذب الاستثمار، بقدر استنادها إلى المناخ العام للاستثمار، والذي يشجع صاحب المال على الإقدام الجريء لسكب أمواله في البلاد . للأسف، حتى الأموال السودانية (المضمونة) التي كان من السهل استقطابها من المغتربين، عبر تشجيعهم لإرسال مدخراتهم عبر القنوات الرسمية .. لم تجد مناخا يشجعها، ولا خطوات عملية لترتيب دخولها بأسعار مجزية لأصحابها، ولو وجدت هذه الأموال أدنى اهتمام، لتدفقت بالمليارات على الخزينة العامة، ولأغنتنا عن الكثير من العنت والعناء .. الذي لم يترك في الجسد السوداني مكانا إلا وأناخ رواحله عليه ! تشجيع الاستثمار يبدأ بمحاصرة الاختناقات الداخلية، بدءا من مشكلات الدواء التي لم يعد الحديث عنها هامسا، مرورا بمشكلات الغلاء العاصفة، وانتهاء بمشكلات الندرة المخيفة والتي تطل بين وقت وآخر بوجهها، ومنها مشكلة الغاز الذي يتذبذب حضورا وغيابا، ومشكلات الدقيق التي بدأت تلوح في الأفق، ما ينذر بندرة قادمة في الخبز، ما لم يتم تدارك الأمر . وبمناسبة الدقيق، فإن فاتورة القمح المستورد المتصاعدة بلغت عام 2012 م حوالي 800 مليون دولار، وهو مبلغ ضخم يكشف خللا في الخيارات الغذائية الأخرى، والتي كانت تشكل أغذية رئيسية وعلى رأسها الدخن والذرة، ما يشير إلى توجس القرار السياسي من مشكلات الدقيق، ليتناسى الخيارات التقليدية .. ويساهم بوعي أو بدونه في توجيه الأنماط الغذائية نحو الرغيف المكلف، إيثارا للسلامة من الغضبة ! تشجيع الاستثمار .. عمل متسع الأفق، رحب المساحة، ذكي الوسائل، ولا يمكن حصره في قوانين جديدة مستحيلة التفعيل دون توفر عناصر موازية. والتجارب من حولنا متاحة لكل من يريد، والكثير من السودانيين أنفسهم استفادوا من مناخات متوفرة في دول أخرى، فلاذوا بمدخراتهم إليها، واستثمروا فيها، وحققوا نجاحات، ويمكن أن يصبحوا مرجعيات في استقطاب الاستثمار الأجنبي . القوانين جزء صغير من المنظومة، وتشجيع الاستثمارلا يتم دون مواجهة العوائق في بيئة الاستثمار .. حتى لا تكون القوانين .. مجرد حبر على ورق !