كادت القبلية والجهوية والعرقية أن تندثر، وشهد جيلنا تسامحا هائلا في الحياة .. وإلفة بين مكونات المجتمع، حتى جعلنا الجار في مكان أقرب الأقربين، وجعلنا قرائب الجار أقارب لنا .. نؤاكلهم، ونجاملهم، ونصاهرهم، ونجعلهم في أمان ما داموا قد جعلونا في نفس المكانة . كادت القبلية والجهوية والعرقية أن تندثر بالفعل، وشهدنا قيام مجتمعات لا رابط فيها إلا رابط الزمالة والإلفة والجيرة والوئام، ووجدنا أمدرمان مزدهرة بأناسها الآتين من كل أنحاء السودان، ومن كل عرقيات الوطن، وشاهدنا أحياء العاصمة العريقة في الديم والسجانة والخرطوم 3 والشجرة، وكذلك الأحياء في الخرطوم بحري التي كانت لعقود قريبة (ضاحية) في العاصمة، وعايشنا أحياء مثل حي السكة الحديد في الخرطوم وفي غيرها من مدن السودان، والمنازل الحكومية في الخرطوم غرب، ومنازل مصلحة الغابات والأبحاث البيطرية في سوبا، وإشلاقات الشرطة في كل السودان، والعديد العديد من المجمعات السكنية التابعة لمصانع أيام العز، فتلاشت الكثير من الحواجز، وأصبحت لغة الناس هي لغة الوطن الواحد، والشعب الواحد، والهم الواحد، والمستقبل الواحد . تذكرت كل هذا الذي (كان)، وأنا أشير مرغما إلى تحديد قبيلتي أثناء تقديمي لاستخراج الرقم الوطني ! الأمر لم يكن يخصني شخصيا بالطبع، فتحديد القبيلة جزء من الإجراءات للحصول على الرقم الوطني، والإجراء له مسوغاته ربما، خصوصا وأن معلومات أخرى مطلوبة في أكثر من قطاع .. تتطلب تحديد القبيلة، وهو أمر ربما بدأ في مرحلة (نيفاشا) التي أدت لتقرير المصير لجنوب السودان، وقد يكون الدافع وراءه إحصائيا، لتوزيع الوظائف الحكومية بعدالة، أو لإتاحة الفرصة العادلة في التنمية والخدمات والتمثيل الجغرافي والسياسي، أو لأسباب أخرى لا أعلمها . المهم أحسست كما هو شعور الكثيرين بالمرارة، فقد شعرت بدحرجة سلوكية في تعاملنا الوطني، لأنه حتى في أيام الاستعمار .. كان كل السودانيين في المحاكم الوطنية .. يصرون على أنهم (سودانيون)، وليسوا من القبيلة الفلانية .. أو العرقية العلانية . والسودان بلد متنوع الأعراق والثقافات، وهذا التنوع كان عنصر قوة طوال عقود مضت، دون أن يؤثر سلبا في تماسك السودان وتلاحم أبنائه، ولهذا نشأت المجتمعات المتجانسة في أكثر من موقع، وكان بالإمكان أن نصبح مع الزمن نموذجا آخر للتجربة الأمريكية في التطور .. انطلاقا من تنوع الأعراق المنصهرة في بوتقة الوطن، لكن دارت الدوائر على البلاد، وتكالبت المصائب والفتن من كل نوع، لتدخل إلى قواميس تعاملاتنا الإشارات الصريحة للعرقيات، والانغلاقات السافرة حول القبيلة والجهة، بل وشهدنا اتساع رقعة التجمعات المنظمة التي تضم في عضويتها الجهات المختلفة .. والعرقيات المختلفة .. والجماعات المختلفة، وكلها تتدثر في ظاهرها بخدمة أعضائها في مناسباتهم الاجتماعية، وفي روابطهم الرحمية، لكنها في باطنها لا تخلو من توجس مبعثه (الآخر)، وكأن الناس تنتوي الاحتياط لأيام عجاف لا يعرفون كنهها، لكنهم يستعدون لها بوعي أو دونه ! مهما كانت الدوافع وراء تحديد القبيلة، ومهما كانت المكاسب الإحصائية أو غيرها من هذا الإجراء، فإن المكاسب الأكبر هي في أن نكون سودانيين بدءا وانتهاء، وإذا كان من ضرورة لتحديد الجهويات والعرقيات، فحري بنا إبعادها على الأقل عن أوراقنا الرسمية والثبوتية .. التي تقودنا لأخذ الهوية الوطنية .