في تقديري أن الأفراح الجنوبية غير العادية بمناسبة إعلان قيام دولة الجنوب يجب أن لا نمر عليها مرورا عابرا إذ لابد لنا من محاولة سبر غورها وتكييفها تكييفا موضوعيا ،الامر هنا ليس له علاقة مباشرة بالجنوبيين إنما بالنسبة لنا الشماليين إذ لابد لنا من فهم صحيح لهذه الدموع وتلك الأفراح وعسى ولعل أن يكون في ذلك اصلاح لمسيرتنا مع انفسنا اولا ومع الدولة الجديدة المجاورة لنا في المقام الثاني . القول بأن هؤلاء الفرحين مغرر بهم أو مخدوعون أو معبأون ينم عن فهم سطحي ووصائي واستعلائي في نفس الوقت . القول بأن الفرح هو فرح نخبة صنعها الاستعمار وغزتها المطامع الخاصة ينم هو الآخر عن عجز فكري فحتى لو كان هذا الفرح فرحة نخبة فقط لابد من أن يجد الاهتمام والفهم الصحيح. القول بأنه فرح مصنوع وخدعة إعلامية لا يمثل الحقيقة وفي نفس الوقت القول بأنهم فرحون لأنهم خرجوا من استعمار أسوأ من استعمار فرنسا للجزائر لا يعطي الحقيقة. القول بأنهم أصبحوا مواطنين درجة أولى بعد أن كانوا مواطنين درجة ثانية وتخلصوا من ليل العبودية الطويل أيضا لا يفي بالمطلوب . وإن عزوا الفرح للمستقبل بالقول إنهم فرحون لأن دولتهم دولة واعدة لأنها غنية بالموارد الطبيعية ايضا لا يشفي الغليل . القول إنها الكراهية المستفحلة لا يعطي التفسير الصحيح لأن فرح بعضهم على الأقل أبيض غير مرتبط بحقد إذ أن بعضهم عبر حتى عن حبه للشمال وقال إن الشمال هو الدولة الأم ونحن الدولة الوليدة ورغم ذلك قال إنه لا يستطيع التعبير عن سعادته بالتصويت والانفصال وبالتالي الاستقلال ليس هذا فحسب بل كثير من الذين غادروا الشمال ودعوا جيرانهم الشماليين بالدموع رغم أن معظمهم كان يسكن في عمارات تحت التشييد والشماليين في شققهم المغلقة فقد نشأت علاقات انسانية متخطية الحواجز الخرصانية . بعد أن يكفكفوا دموعهم وتتحرك بهم الناقلات يهتفون (الجنوب وييي ..الحرية وييي). العبد لله شخصيا لا يدعي أنه يملك الإجابة على هذا السؤال لكنه لا يقبل الافتراضات أعلاه فما زلت محتارا مثل غيري من الشماليين ولكن في تقديري أن البحث عن الإجابة يكمن في بنية الدولة التي كانت تربط بين الشمال والجنوب هذه الدولة بنيتها (مسوسة) فإلى أن نثبت وجود هذا السوس من أين أتى وكيف تغذى وكيف تعملق وفعل بنا ما فعل , علينا الآن أن نحترم افراح اخوتنا الجنوبيين ونبارك لهم فمن هنا نبدأ. ولندع جانبا مستقبل الدولة الجنوبية والتكهن بنجاحها أو فشلها فهذا ليس موضوعنا انما نريد هنا أن نعتقل هذه اللحظة الراهنة لفهم الفرح الغامر المدهش دواعيه ودورنا فيه كشماليين وكيف يمكن تفاديه مستقبلا ليس لعودة من ذهبوا فحسب بل لبقاء من بدا يتململ وهنا لابد من سؤال عرضي من يتململ على من؟. كسرة (فرح في حديقة شوك قديم) عنوان لقصيدة كتبها شاعرنا الكبير محمد المكي إبراهيم بمناسبة توقيع اتفاقية اديس ابابا 1972 يقول مطلعها( حين أغفت أعين البنادق الموت نام / نهض العشب بين الخنادق/ والزهر قام/ زهرة للهوى / زهرة للجنوب/ وزهرة للشمال الحبيب / وزهرة للتقدم والتنمية) ولكن يا عزيزنا وكبيرنا ود المكي هذه المرة الفرح في الجزء الجنوبي من حديقة الشوك القديمة فقط, فهل يمكن أن نعممه؟. حاطب ليل- السوداني [email protected]