كان أمرا بديهيا وطبيعيا أن أتعرض للبهدلة والمواقف المحرجة، في أول زيارة لي للندن في سبعينيات القرن الماضي، كما يحدث مع معظم أبناء العالم الثالث والتاسع، وإلى يومنا هذا هناك من العرب من زار عاصمة غربية أكثر من خمس مرات ومازال يتعثر ويصطدم بغرائب العادات والأنظمة والتقنيات السارية والمستخدمة فيها، وفيما يتعلق بحالتي خذ في الاعتبار أنني مثل معظم القراء قروي التكوين والنشأة «وعندنا تجمعات سكانية تضم مئات الآلاف وفيها أبراجا شاهقة وتسمى مدنا لتلك الاعتبارات، بينما جُل سكانها يتحلون بروح الرعاة أو الفلاحين»، حتى الخرطوم التي تعاملت معها خلال المرحلتين الثانوية والجامعية، «وكانت في ذلك الزمان افضل حالا من الخرطوم المعاصرة من حيث النظام والنظافة والخدمات».. حتى تلك الخرطوم كانت علاقتي بها سطحية: عرفت فيها طريقي إلى السينما وذقت الآيس كريم وصرت أشرب الكولا من دون أن تندفع عبر جيوبي الأنفية وتتحول إلى مسيل للدموع.. ولكنني ظللت في أعماق تلافيف أمعائي الدقيقة قرويا ينتمي إلى جزيرة نهرية، لم أعرف أنها جزء من جمهورية السودان إلا وأنا في المرحلة المتوسطة.. لم تكن تصلنا الصحف وكان عدد أجهزة الراديو في جزيرة ضخمة المساحة لا يزيد على أربعة، ولم يكن مسموحا لنا كأطفال الجلوس مع علية القوم أمام جهاز الراديو بل كنا نلتصق بجدران بيت صاحب الراديو «وكان في منطقتنا هو شيخ موسى سيد الشهير ب«أكليش».. واكتسبت عائلته هذا اللقب لأن والده عمنا المرحوم «سيد»، عاش في مصر حينا من الدهر وكان يعرف بعض العربية وذات مرة سألوه عن سبب عمله ساعات طويلة فأجاب: أكل عيش... والحنجرة ومخارج الحروف النوبية تشوف العمى ولا تشوف حروفا مثل العين والخاء والحاء والصاد والضاد، وهكذا التصق بالرجل اسم «أكليش»، لأنه نطق بعبارة «أكل عيش» العصية على النطق والفهم»، وكان ما يهمنا من أمر الراديو هو الأغاني، لأننا لم نكن نفهم ولا ندرك معنى ومغزى ما يأتي في نشرات الأخبار، بل كان الرأي السائد هو أنه من الخير للإنسان ألا يقترب من «الحكومة» حتى بحاسة السمع، لأننا كنا نعتقد ان الحكومة «شخص معين» ذو قدرات خارقة ويتميز بالشراسة ولديه كثير من المال، ولهذا يستأجر جماعة ترتدي ملابس مصنوعة من قماش يسمى الكاكي، وتحمل صفة بوليس ومهمتها الأساسية هي الزج بالناس في السجن، ولم يكن في ذلك تجن او ظلم للبوليس، فجزيرتنا لم تكن تعرف الجرائم التي تتطلب تدخل الشرطة، وكان العمدة قادرا على حل كل أنواع المنازعات بين السكان. تخيل شخصا بهذه «الخلفية» يجد نفسه في لندن فجأة حيث سكتلنديارد والملكة اليزابيث، والقطارات التي تمشي تحت الأرض، والسلالم الكهربائية التي تقف عليها فتطلع او تنزل بك، وحيث كل شيء في المتاجر سعره مكتوب عليه مما يفقد التسوق متعة المفاصلة.. من حمار يقطع كيلومترا في 15 دقيقة إلى قطار يقطع 25 كيلومترا في الدقيقة؟ والدجاج المحمر يباع في الطريق العام، بينما كانت أمي لا تطعمنا من الدجاج إلا ديكا تقاعد عن الخدمة أو دجاجة انقطع عنها الطمث، ولا يستوي لحم هذا النوع من الدواجن إلا بإضافة الكربونات إليه.. وكنا في بلدتنا بدين لا نرى الشعيرية إلا في مناسبات الزواج، ثم وجدنا في لندن شعيرية تطبخ باللحم ويسمونها اسباجيتي ولم أنجح في أكلها إلا بعد تحويلها إلى قطع صغيرة بالسكين، لأن الشوكة خذلتني وفضحتني مع البتاع المسمى اسباجيتي. جعفر عباس [email protected]