*يحتضن نهر النيل في رحلته الأزلية باتجاه الشمال، يحتضن برفق قبيل صخور الشلال الخامس منطقة الباوقة، التي تتبع إدارياً لمحلية بربر بولاية نهر النيل. *وإن كتب تاريخ الباوقة باسم (قبيلة الانقرياب)- عبدلاب- كقبيلة مؤسسة، إلا أن هناك العديد من المساهمين الأساسيين، كقبائل المناصير والرباطاب والجعليين وغيرهم من البطون والأفخاذ العشائرية. *غير أن الباوقة وعبر تاريخها الذي يناهز عشرات العقود من الزمان السوداني المرهق قد انتجت (انسان الباوقة) كما أنتجت القنديلا وودلقاي والمانجو، الباوقة الأم والأب إن افتخر الآخرون بقيس أو تميم. *والباوقة ليست بدعاً من المدن السودانية التي نهضت على فكرة، فمعظم مدننا إما تأسست على الطريقة الإبراهيمية أن ينتحي شيخ وينتخب بادية بعينها ثم يقيم عليها مسجداً ومسيداً (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)، فكانت كدباس وأمضبان ومدني السني وطيبة وكل الطيبات. التي لم تقم على مشروع فكري إبراهيمي أن تصنع الكسرة، وتأتي الناس منكسرة قد نهضت على مشروع زراعي. *ارتبط تاريخ الباوقة الحديث بمشروعها الزراعي الذي تأسس عام 1917 وهو الذي حولها إلى (جنية نضيرة) غزل الشعراء من جريد نخلها الأخضر أجمل الوشاحات والأناشيد وصدح المطربون بأعذب مغناها وأغانيها ويرفدنا ذلك المقطع الأثير (من جناين الباوقة طرحة ومن مريدي السمحة لوحة الطبيعة حنت عليك).. وكنت أحس بعض أصدقائي ولا زلت (لصناعة فليم وثائقي) عن (باوقة حمد والليمن) يحفظ في ذاكرة أقراص مدمجة ويملك للأجيال، لأن هذه الباوقة الجميلة إن نجت من الخزان، ولن تنجو، فلن تنجو من الهدَّام وتلك قصة أخرى سنعرض لها في حينها. *ولكن ليس بالشعر الجميل والأماني والأغاني فقط تعمّر الأوطان، فالباوقة التي تأسست على ستين ساقية قبل قرن من الزمان بين النهر والجبل، قد ضاقت بساكينها وعلى ذكر النهر.. كنت أقول ممازحاً لصديقي محمد الحسين جعل "سنبنيها دولة العبدلاب الكبرى ما بين النهر والبحر وعاصمتها قرى". *فالشاهد أن الخمسة أفدنة التي كان يمتلكها مزارع واحد الآن تفرقت ملكيتها بين ما يقارب الخمسين فرداً، فضلاً عن معظم المفروشات قد انتهى عمرها الافتراضي وشجرة النخيل التي نهضت عليها فلسفة الباوقة برمتها، قد اعترتها كثير من العلل والأمراض. * فضلاً عن المشاكل الأمنية والتربوية والاجتماعية والثقافية والصحية التي تحتاج إلى (مواجهة ووقفة شجاعة)، فلم يعد سراً بل إن محاضر المحاكم وساحات العدالة في كوبر قلب العاصمة القومية، قد اهتزت بوقائع وحيثيات لم تكن في أسلافنا. *لهذا وذك يلتئم اليوم (بالباوقة) اجتماع مهم تنادى له بعض الرموز والمثقفين والفعاليات ليجيب عن سؤال واحد (الباوقة إلى أين؟).. عمرانياً تربوياً اجتماعياً ثقافياً وخدمياً.. ولا بد من صناعة (باوقة جديدة)، فلعمري فقد ضاقت بلاد بأهلها! *في الثمانينيات طرحت منطقة (حويلة) شرق النيل كواحدة من خيار الامتدادات، ولكن حويلة نفسها قد تحولت اليوم إلى جحافل المستثمرين (شركة الراجحي).. منطقة يحيط بها الذهب من كل مكان، وأن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي، وإن لم تحسموها اليوم ستضيق أمامكم الفرص والخيارات. *سيضع كل واحد من المؤتمرين قناعاته الفكرية ولافتاته الحزبية بالخارج ويدخل فقط (بجلباب الباوقة) الناصع الأبيض أو السمني، لا فرق، على أن يخرج المجتمعون بمخرجات هذا الاجتماع إلى لقاء جامع بأبناء المنطقة وللحكومة والفعاليات. *يفترض أن تحتفل الباوقة عام 2017م بمرور مائة عام على قيام مشروعها ومشروعيتها التي تأسست عام 1017م وأمة ترقد على هذا التاريخ الذهبي والإرث التليد حرى بها أن تضع أقدامها الراسخة على أعتاب المستقبل والسلام.. ملاذات آمنه - صحيفة اليوم التالي