كان الدرس الأول الذي علمونا إياه في لندن، في أول زيارة لنا لها لدراسة أصول العمل التلفزيوني، سرعة التجاوب مع إنذارات الحريق، ومازالت قواعد ذلك الدرس راسخة في وجداني، ففكرة الموت بأي وسيلة مخيفة، ولكنني لا أتمنى أن أموت مشويّا، وتسير جنازتي في الشوارع ويحسب المارة أن بعض المستهبلين يحملون كبابا مشويا داخل كفن، وقبل نحو عشرة أعوام والسعودية تشهد عمليات تفجير وتقتيل عشوائية كانت تنفذها جماعات إرهابية، كنت في فندق ماريوت في مدينة الرياض، بصحبة زوجتي، في غرفة في الطابق السادس، عندما دوّت صفارات الإنذار، مصحوبة بنداء عبر مايكروفونات داخلية تحث النزلاء على سرعة مغادرة غرفهم، واختطفت شنطة يد بها جوازات سفرنا، وقلت للمدام: الدوام لله، هيا نخرج، وبحكم ثقافتي في مجال السلامة فقد نصحتها بأن تخرج حافية القدمين، لأن الأحذية النسائية بالذات، غير مصممة للحركة السليمة في الحالات الطارئة، ومن باب المجاملة خرجت مثلها حافيا، ووصلنا الى سلم/ درج الطوارئ ووجدت العشرات مندفعين نزولا بشكل أهوج، ولا أدري من أين أتتني الشجاعة لأصيح فيهم: يا غجر يا تتر، ممكن جدا باندفاعكم هذا تتسببون في موت بعضكم دهسا وهرسا، فرجاءً تعالوا نهبط بدون تسرُّع، فصاح أحدهم: امشِ أنت على أقل من مهلك حتى تنهال عليك الجدران، فقلت له: وأنت اركض فربما تكون أولنا وصولا إلى موقع الانفجار، وتكون بذلك «فديتنا»، ولولا أن الموقف كان حرجا للغاية لقام صاحبنا بخنقي، ولكن كلماتي أرعبته، فواصلنا النزول بهدوء ووجدنا أنفسنا في مطبخ الفندق في الطابق الأرضي ثم وجدنا مخرجا، عبرنا منه إلى مسافة بعيدة عن الفندق، ووقفنا نترقب الانفجار، وبعد نحو عشرين دقيقة، جاءنا موظف من الفندق وقال إن «كل شيء تمام التمام والإنذار كان كاذبا»، ولولا وجود بعض العقلاء لفتك به بعض الشبان الذين كانوا ضمن مجموعتنا، وحقيقة الأمر أن الإنذار لم يكن كاذبا على الإطلاق، فقد انطلقت صفارات الإنذار من الحريق لأن مجموعة من الشبان الطائشين جلسوا في غرفة في الفندق يدخنون فيها الشيشة، وهو أمر ممنوع حتى في الفنادق غير المحترمة، فاختنقت الغرفة بالدخان وصرخ جهاز الإنذار فيها: الحقوني، يا لهويييي، فرددت بقية الأجهزة النداء الاستغاثة، وبما أن نظام الإنذار في الفندق مرتبط بنظام تسجيل صوتي تحذيري، فقد أصدر التسجيل أمر إخلاء الفندق، ولكن المشكلة الكبرى كانت في أن نظام التسجيل «علّق»، اي لم يعد ممكنا اسكاته لخلل فني، فظل يصيح ويصرخ حتى بعد اكتشاف أمر الشيشة واعتقال المشيشين الطائشين. ما يحزنني كسوداني أن اي مواطن يستطيع أن يبني عمارة من أربعة أو أربعين طابقا، ويقوم بتأجيرها كمساكن ومكاتب، من دون أن يحصل على تصريح من إدارة الدفاع المدني بأن المبنى مستوفٍ لشروط السلامة، ودخلت عمارات في الخرطوم، لا تسمح الممرات فيها بالهرب في حالات الحريق، حتى في حال وجود مخارج للطوارئ، لأن العديد من البلاوي القابلة للاشتعال (مثل الأوراق والأخشاب) مكدسة على جنباتها، أما بيوتنا فعين الله تحرسنا فيها، فليس فيها طفايات حريق أو أجهزة إنذار، لأن الله أكرم من أن يعذبنا مرتين، فالسودانيون يعانون من صيف جهنمي نحو عشرة أشهر في سنة، وهم مكويون بنيران الغلاء، ولا أجد تفسيرا غير ذلك لانعدام ظاهرة حرائق البيوت في المدن السودانية، أما أهل الأرياف، فيعرفون الحرائق التي تأتي على أحياء بأكملها، ولا يفكرون قط في الاستنجاد بفرق الإطفاء، لأن هذه الفرق على تعاسة إمكاناتها، لا توجد إلا في المدن الكبيرة التي يسكن فيها من يحسبون أنفسهم «كبارا». جعفر عباس [email protected]