أثناء الإستراحة، سألت دانييلو كاميزي خبير قوانين مكافحة الإرهاب الذي كان يغسل يديه بجانبي، عن بلده، هل هي أسبانيا، فرد بأنه من إيطاليا، قلت وأسبانيا لا تزال بذهني، بلد الجنرال فرانكو، فقال دانييلو بسرعة، لا لا هذه اسبانيا، ما حدا بي للإستدراك: عفواً قصدت موسوليني، هذا الحديث القصير يشير إلى معرفة الخبير الإيطالي بالتاريخ السياسي لبلاده، وأسبانيا، وأوروبا على وجه العموم، لكن علاقته بالسياسة تتلاشى عندما يجلس على المكان المخصص له داخل القاعة التي تحتضن ورشة حول الصكوك القانونية العالمية المستحدثة لمكافحة الإرهاب، ويتحول إلى قانوني بلا زيادة أو نقصان، يجيب بصورة آلية على أي سؤال يرى أنه يتجاوز حدود مهمته بالقول: عفواً، مهمتي قانونية، ولا أستطيع الإجابة على هذا السؤال. دانييلو ورفيقه إيهاب المنيرباوي، القاضي والضابط ووكيل النيابة المصري السابق، يعملان في فرع مكافحة الإرهاب بمكتب الأممالمتحدة لمكافحة الجريمة والمخدرات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومقره القاهرة، وقدما للخرطوم هذه المرة فيما يبدو للتعريف والتسويق لاتفاقيات قانونية جديدة تتعلق بمكافحة الإرهاب النووي، وتمويل الأنشطة الإرهابية، لم يوقع عليها السودان بعد على الرغم من توقيعه على معظم الاتفاقيات (الصكوك القانونية) ذات الصلة على حد قول المنيرباوي الذي امتدح عدة مرات خلال اليومين الماضيين من عمر الورشة مبادرة السودان بالتوقيع على الصكوك القانونية الدولية المختلفة، قبل كثير من الدول العربية. المتابع للورشة خلال اليومين، يصل إلى استنتاج مفاده أن الخبيرين قدما لهدف واحد، وهو إقناع الحكومة السودانية عبر إقناع أجهزتها العدلية والأمنية بضرورة التوقيع أو التصديق أوتفعيل اتفاقيات وبروتوكولات جديدة في مجال مكافحة الإرهاب، وتحدث الخبير دانييلو المتخصص في شؤون الإرهاب النووي بشكل رئيسي عن إمكانية استخدام الجماعات الإرهابية لأسلحة نووية، واستعرض اتفاقية الحماية المدنية للمواد النووية التي صادق عليها السودان واتفاقية قمع أعمال الإرهاب النووي، وهي اتفاقية خلص كامييزي إلى أنها توفر معايير قانونية للتعامل مع مخاطر الإرهاب باستخدام مواد نووية، فيما دفع البعض بأن مثل هذه الاتفاقيات يلتزم بها البعض ولا يلتزم بها آخرون، وأبرزهم العميد أحمد إبراهيم أمبدي من القضاء العسكري ممثل وزارة الدفاع الذي طالب بأن تشمل هذه الاتفاقيات الدول الكبرى، وأن لا تبقي مجرد نصوص تستدعى وقت الحاجة لتفرض على دول العالم الثالث، لكن الخبير الإيطالي نأى بنفسه عن مداخلة العميد باعتبار أنها سياسية، وليست قانونية. وعلى خلفية تزايد أعمال القرصنة في منطقة خليج عدن، قدم إيهاب المنيرباوي إيجازاً عن بروتوكول قمع الأعمال غير المشروعة ضد سلامة المنصات الثابتة على الجرف القاري (تعني المنشآت القائمة في البحار قرب السواحل كحفارات النفط البحرية)، المكمل لاتفاقية قمع الأعمال غير المشروعة ضد سلامة الملاحة البحرية لعام 1988 التي وقع عليها السودان، ورسم الخبير صورة لتحالف محتمل بين القراصنة وجماعات إرهابية للقيام بهجمات بمواد نووية في مسعاه لإبراز أهمية توقيع السودان على البروتوكول الذي يجرم إنزال ونقل مواد بيولوجية أو نووية من سفينة إلى سفينة. ولم يكتف الخبيران بتقديم الصكوك القانونية الجديدة المتعلقة بالإرهاب النووي، بل قدما شرحاً للإطار القانوني الدولي لمكافحة الإرهاب، إضافة لإطار مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وهو إطار يتشكل من قرارات لمجلس الأمن كالقرار 1373 الذي حظر تقديم الملاذ الآمن أو الدعم أو المال للإرهابيين بواسطة الدول، والقرار 1540 الذي حظر على الجهات غير الحكومية السعي لتطوير أسلحة دمار شامل، والقرار 1267 المتعلق بتجميد أصول طالبان والقاعدة ومنع بيع السلاح لهما، وإنشاء قائمة الإرهاب الموحدة التي يكفي ليضاف إليها اسم الشخص أن تبلغ إحدي الدول عنه وتقدم بعض الأدلة على تورطه في أنشطة إرهابية فيتم تجميد أمواله وممتلكاته ويمنع من السفر، إلى جانب توصيات مجموعات دولية متخصصة كتوصيات فرقة عمل الإجراءات المالية (فاتف) المتعلقة بغسيل الأموال. وليس السودان بعيداً عن كل ذلك في واقع الأمر، فالمنيرباوي يعمل منذ 2003م على التعاون والتنسيق مع السلطات لتكييف التشريعات الوطنية مع الصكوك القانونية الدولية المستحدثة، ويجرى الآن العمل على تطوير قانوني مكافحة الإرهاب لعام 2001 ومكافحة غسيل الأموال لعام 2003 بمشروعي قانون مكافحة الإرهاب ومكافحة غسيل الأموال للعام 2009، وقال المستشار أحمد إدريس من وزارة العدل إن قانون مكافحة الإرهاب الحالي يحتوى على بعض الأجزاء التي تحتاج لمزيد من التطوير، إذ تحتاج الفقرة الأولى التي تعرف الإرهاب لإعادة صياغة، كما أنه احتوى على مواد لا تدخل في تصنيف الأعمال الإرهابية، ومن بين نقاط الضعف الأخرى التي يسعى القانون الجديد لتلافيها عدم تماشي مصطلحات قانون الإرهاب السوداني مع المصطلحات السائدة في الصكوك الدولية، والشدة و(الغلظة) التي اتسم بها القانون القديم الذي لا تتناسب فيه العقوبة مع الجرم أحياناً، إضافة إلى خلوه من الإشارة لضرورة احترام حقوق الإنسان أثناء مكافحة الإرهاب، كما أنه لم يحدد مستوى عبء الإثبات، وهو مصطلح قانوني يشير إلى مدى قوة البينات ضد المتهم. ومن أبرز القضايا التي كانت موضع جدل، تعريف الإرهاب، وأبدى المستشار هيثم عمر دهشته لعدم النص على عقوبات محددة في الصكوك الدولية التي قدمها الخبيران، مذكراً بالقاعدة القانونية القائلة (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)، ومضى الخبيران في معرض ردهما للقول إن تعريف الإرهاب ليس مهمة الأممالمتحدة لكنه مهمة الدول الأعضاء، وأن عدم تحديد عقوبات معينة للجرائم الإرهابية التي حددتها الصكوك الدولية يرجع لاختلاف الثقافة القانونية السائدة في العالم، فبينما لا يطبق حكم الإعدام في أوروبا على سبيل المثال، تتطلب الشريعة تنفيذه في بعض الحالات. وعمل بنك السودان منذ وقت على مكافحة غسيل الأموال، إذ أصدر في العام 2002م منشوراً عرف فيه غسل الأموال، ووسائله وكيفية اكتشافه، وشكلت لجنة إدارية لمكافحة غسيل الأموال يرأسها النائب العام، بعضوية جهات عديدة ابرزها البنك المركزي والضرائب والجمارك والتجارة الخارجية، كما انضم البنك لمجموعة العمل المالي المشترك للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في 2006 وتعمل على التنسيق والتعاون لمكافحة غسيل الأموال، والجديد الذي تحمله الصكوك القانونية الدولية المستحدثة في هذا الخصوص هو تجريم تمويل الإرهاب، ما يشكل نقلة تتجاوز القاعدة القانونية القديمة باعتبار المرحلة التحضيرية للجريمة خارج نطاق العقاب. الفريق محمد جعفر رئيس الهيئة التنسيقية لتنفيذ القرار 1373 أكد التزام السودان باستراتيجية الأممالمتحدة لمكافحة الإرهاب، والتزامه بارسال تقارير دورية للأمم المتحدة، ودعا المنظمة لتقديم المزيد من المساعدات الفنية المتطورة للسودان لمكافحة الإرهاب وغسيل الأموال. وإن كان البعض ينظر بعين الريبة إلى مثل هذه الاتفاقيات والبروتوكولات والأطر القانونية خاصة بعد قضية المحكمة الجنائية الدولية وتوقيع السودان على ميثاق روما، فهناك أيضاً ثمة من يرى أن مثل هذه الاتفاقيات لا تضر بالدول الصغيرة بقدر ما تزودها بإطار قانوني ربما يسعفها اذا ما تعرضت لتهديدات وهجمات إرهابية، خاصة وأن الدول الكبرى ليست بحاجة إلى أطر قانونية للدفاع عن مصالحها، إذ تمكنها قوة بأسها العسكري والإقتصادي والسياسي من حماية أمنها القومي، بلا اتفاقيات دولية، وبلا قانون بطبيعة الحال.