نظرت للسماء ما بين لحظات إنسراب اخر خيوط الضوء ، ومقدم الظلام ، لاول مرة – لحظت- إختفت بقايا دوامي الوان شفق الغروب ، تلبدت سماء الخرطوم بزرقة صارمة ، كتمت حرارة الجو أنفاس الهواء ، قلت تلك مقدمات مطر ثقيل ، نحن ابناء الخريف و(الشوقارة) سكني المدن ، بين حصي وأسفلت منعت عنا ذاك الرصد الذي خبرناه في (القيزان) حينما تنشق الرمال عن علامات الحياة ، مطالع نبت ، مثل بشارات تحايا الارض للسماء أن افيضي ، هناك في قريتنا (الحرازة) ربما وعكس مركوز العرف والعادة لا يحارب الحراز المطر ، تكتسي شجيرات المكان خضرة كأنما مستها يد ملك مبارك ، فيعرف الناس ان موعد رحمتهم أزف وحان ، الناس في تلك الاصقاع ، لا يعرفون اغسطس سليل الرومان و(اب) او أرجواني ، يعرفون رمضان والفطر وذو الحجة و(قصير) و(سايق التيمان) ! الخريف عندهم يوصلهم الي (الدرت) ويكف عنهم جارحة (الرشاش) الخريف عندهم من الاشهر الحرم ، لا دماء فيه ولا ثأرات وانما زرع وضرع يمتلئ ، وخضرة تهذب النفوس وماء وفير وصيب مبارك ، لا يقلقون فيه الا لانقطاع خطام بعير ، او علوق (احو) في لزوجة حرف من الطين ، هو خريف غير ذاك الموسوم في المدن بتضجرات المجالس بين تيار كهربائي احتفظت به الحكومة لتدابير حرصها علي حياد الاسلاك ، موسم لا ملاعن فيه للمحلية او الوالي ، اذ لا شئ يخسرونه هو موسم يشدون معه كما يوسف البدوي (منو الزقل الشمس سفروك علي كتف السّحاب شبال) ، ارض مباركة ورب غفور ، استحضرت كل هذا وانا اخرج من خباء انس خميسي الي الشارع ، بالخرطوم ، علمت اليوم ان السيارات الكورية لا كرامة لها ، وان اهل (الامجاد) في واقع الامر المرير (راقدهم لخ) ، غاصت الاحذية في الماء ، كما غصت انا وخضت ، اكتشفت ان مجاري المدينة ربما اخذت خرطها تحت قافية العطبرواي وهو يودع الانجليز (يا غريب يلا لي بلدك) ، اكتشفت ان الخرطوم (رهد) يحف بالعمائر بل (دحل) وربما (رقبة زرقاء) مثل تلك التي انكرها علينا ذاك الاشقر الذي رسم تاريخ (ابيي) بعد إتفاق (نيفاشا) وكنت للامانة حفيا بحكومة الجنرال (عبد الرحيم) اذ لم اسبها او العنها ، انا منذ ان كنت طفلا غريرا اري هذا العراك الموسمي بين الناس والامطار واضطرابات الفصول ! وانا اليوم رجل يعبر عمر النبوة عدوا ولا يزال الامر عينه والمعاناة والضجر ، لم آبه كثيرا وتلقيت صفعات الطين والوحل من الراكبين والراجلين والسابلة ، كنت (ميت القلب) لدرجة اني انتظمت في صف لشراء (طلب فول) تكاثر فيه حشد من يسعون لترميم شروخ جوعهم ، ولا اجمل من صحن فول في ليلة سيعقبها صباح الراجح فيه ان انه سينتهي الي لجان وانبثاقات وانبعاجات في بطون وحوايا النصوص الإخبارية ، وان البعض من غيظه سبتمني لو ان الجفاف صار هو الاصل ، هؤلاء ينسون ان الخريف مثلما ان قلق لهم فهو لغيرهم وفي غير الخرطوم بشارة وشوقارة ، وسعي بين (مخمس) و(سيداب) وفرة امان وعتق للرقاب من جر الحبال لطلب الماء من اغوار الارض والابار (السواني). بقلم