*ثمة وجوهٌ تسقط من الذاكرة… خلال رحلة الحياة.. *فهي لا تحفر فيها أثرا… ولا تترك عندها انطباعا… ولا تدمغ عليها ذكرى.. *مجرد وجوه… مثل أشجار تشاهدها عبر نافذة قطار.. *حتى وإن كان من بين هذه الوجوه ما لازمك حقبةً من حياتك.. *ووجوه أخرى عكس ذلك… تبقى بالذاكرة ما بقي الإنسان سائراً في رحلته الدنيوية.. *ومن الوجوه التي علقت بذاكرتي وجه سليمان الصول.. *كان صول مدرستنا الثانوية العليا… وأحد ركائزها المهمة… في نظري.. *لم أره غاضباً… أو عابساً… أو مكشراً ؛ طوال فترة دراستي.. *وكان أول ما وُوجهنا به – لحظة ولوجنا المدرسة – (الكديت)… وعم سليمان.. *فهُرع الكثيرون منا لتسجيل أسمائهم… وهم فرحون.. *وعجبت أنا لفرحهم… ربما لحساسية من تلقائي سببها الانقلابات العسكرية.. *وتحديداً انقلاب (مايو) الذي تفتح وعيي عليه… صغيرا.. *فمنذ ذياك الزمان المُبكِر وبيني وبين النُظم العسكرية كافة ما صنع الحداد.. *لا لشيء إلا لأنها في حالة عداء دائم مع الحرية… أصل الدين.. *ولم يشذ عن هذه القاعدة نظام عسكري أبداً… في طول بلاد العالم الثالث وعرضها.. *ولكن سليمان (العسكري) كان ديمقراطياً معنا… لأبعد الحدود.. *ومن دلائل ليبراليته إنه كان يمقت الجلد ظلما… إذا ما كُلف به حيال طالب.. *فقد كان يتحرى أسباب تحويل (المذنب) إليه.. *فإن وجد عذراً لم يأخذ به الأستاذ – تعجلاً – لا ينفذ (أوامر) الجلد.. *وهو – للحقيقة – ما كان ينفذها مطلقاً… في كل الأحوال.. *فإن وجد الطالب مخطئاً أخذه إلى غرفة التنفيذ… ونصحه بعدم تكرار جرمه.. *ثم جلد حذاءه العسكري المسكين بالسوط… جلداً له فرقعة.. *ويطلب من الطالب – أثناء ذلك – أن يقول (آه) بصوت عالٍ… ويضحكان معاً.. *وقد كان أصلاً يضحك على الدوام… فيشيع البهجة بيننا.. *ولكنه في يوم ضحك كما لم نره يضحك من قبل… حتى دمعت عيناه الصغيرتان.. *وذلك حين ضحكت المدرسة كلها من عم (حشاش)… وعليه.. *فقد كانت الحصة لغة فرنسية… وطرق عمنا هذا باب الفصل ليعلمنا أمراً ما.. *فما أن رآه الأستاذ حتى سألنا بالفرنساوي (من هذا ؟!).. *ونسي أن عمنا هذا أخلاقه (جزمة قديمة)… ولا يضحك أبداً… عكس عمنا الآخر.. *فأسمع الأستاذ – وإيانا – ما يُضحك….. ولا يُقال.. *وبلغ الكلام – ذواللكنة النوبية هذا – مسامع سليمان… فكاد يموت ضحكاً.. *وبعد سنوات من تركنا المدرسة أتاني صديق دراسة بجواب.. *وقال (إنه من سليمان)… ويحثنا فيه – من بعد السلام – على ألا (ننسى أياماً مضت).. *ثم أشار إلى أول فقرة أعلاه وهو يتبسَّم….. بمغزى.. *وأضاف… (وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) !!!. صلاح الدين عووضة صحيفة الصيحة