ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصورة والفيديو.. على أنغام أغنية (حبيب الروح من هواك مجروح) فتاة سودانية تثير ضجة واسعة بتقديمها فواصل من الرقص المثير وهي ترتدي (النقاب)    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالفيديو.. حسناوات سودانيات بقيادة الفنانة "مونيكا" يقدمن فواصل من الرقص المثير خلال حفل بالقاهرة والجمهور يتغزل: (العسل اتكشح في الصالة)    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    هل رضيت؟    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حنتوب الجميلة (1974- 1977 ) .. بقلم: الصادق عبدالله عبدالله
نشر في سودانيل يوم 26 - 12 - 2013


كلمات الشاعر: محمد عوض الكريم القرشي.
غناء : المطرب الخير عثمان.
حنتوب الجميلة ..
منظرها البديع .. يا روعة جلاله
تعجب حين تزورا .. وتجلس على تلاله
حنتوب الجميلة ..
فيها الأدب.. فيها الشباب
العامل لي وطنه .. وما داير ثواب
حنتوب الجميلة
للنيل باقية شامة.. والهدهد علامة
منسق نظاما .. في تقدم دواما
لم تعرف حنتوب بأقل من أنها حنتوب الجميلة. تكراراَ وتاكيداَ بأنها جميلة. لم يزرها زائر إلا وإنها الجميلة الجميلة، ولا يرتادها مرتاد إلا وإنها الجميلة أيضاَ و لم يبق بين حناياها باق إلا و انها كذلك الجميلة. الدخول إلى حنتوب، كان مثل دخول الفاتحين إلى مدائن محصنة بالجند والمانجنيق، لا يماثلها في وقتها إلا الدخول إلى جامعة الخرطوم (الجميلة ومستحيلة). لحنتوب جمال دائم مقيم، بالليل والنهار، في الصيف والشتاء وموسم المطر. الانطباع الأول في حنتوب هو الجمال. أما الانطباع المستدام فهوالسحر الذي تخلفه عند أبنائها ومعلميها وروادها.
الدخول إلى حنتوب كان في موسم المطر، حيث ينزل عليها الغيث في علاليها ووهادها ، بتربتها الطينية الرملية المتماسكة. ولحنتوب جمال وزينة بأيدٍ ذات عناية فائقة، تدعمها طلمبة للمياه على شاطئ النيل، تضخ الماء تحت الارض، لا يظهر الماء للعيان إلا وهومتدفق داخل الحدائق في المنازل والداخليات وقلعة المدرسة.
كانت كل خطوة خطاها المؤلف إلى المدرسة وما بعد المدرسة وراءها الحاج عبدالله ود عبدالله ود ابوعياشة، أبي، أسال الله أن يجزيه الفردوس الأعلى. ومن ورائه الأم الرءؤم أم سلمة بت عبدالله ود مقداري، أسأل الله لها الرحمة الواسعة والنعيم المقيم في الفردوس الأعلى. في الأسبوع الثاني من يوليوفي عام 1974، ومع مطلع الخريف وكان خريفاَ غزير المطر، وجدتُ نفسي أعد العدة لأذهب لحنتوب. وقد تزامن الترتيب لذهابي للمدرسة مع موسم الزراعة. فقبل ثلاثة أيام كان الوالد ضمن الذاهبين للزراعة في منطقة الشقلة غرب قرية النورانية، (الشقلة تعني الاشجار الشوكية الصغيرة النامية، قبل أن ترتفع عن الارض) وقد كان الناس يذهبون في مجموعات على الجمال يحملون تواريبهم (جمع تيراب و تعني البذور) وزوادتهم (طعامهم)، قبل أن يحل اللوري والتراكتور . فقد أصبح الناس يحملون البذور على لوري يتبعه تراكتور، حتى إذا صعب عليه السير في الوحل تمت الاستعانة بالتراكتور ويتخيرون أيام الجفاف للذهاب، هذا مع أخذالطعام الكافي والذي يتمثل في دقيق الذرة والبصل والزيت والسمك الجاف لصناعة الإدام، ويضربون معسكرا لهم يقيمون فيه حتى انتهاء إكمال عملية الحرث بالتراكتور والبذر ثم يتكرر الذهاب في مرحلة النظافة ومرة ثالثة في مرحلة الحصاد.
قبل ذلك ذهبت مع والدي إلى سوق سنجة لشراء بنطلونين وثلاثة أقمصة وطقمين من الزي المدرسي، تم تفصيلها لدي سري أشهر ترزي إفرنجي بسنجة وحذاءين شبط (صندل) للمدرسة وآخر صندل (شبشب) لزوم المشاوير غير المدرسية. كان الزي المدرسي للمرحلة الثانوية قميص نصف كُم رمادي اللون وشورت (ردا) رمادي أيضاً، حتى تم تغييره لاحقا (بعد دخولنا للجامعة) في عهد الوزير دفع الله الحاج يوسف إلى بنطلون كامل مع تغيير اللون إلى قميص الأبيض وبنطلون بني، وكنا وقته قد دخلنا إلى الجامعة لتصبح البناطلين الزي الطلابي اثناء الجامعة وبعدها في أماكن العمل.
في اليوم المحدد لذهابنا إلى حنتوب، وجهنا الوالد، أخي أحمد وأنا، أن ننتظره في طريق العربات عند لفة خليل (قرية معروفة) في الشجرة التي تتخذ كموقف للقادمين والذاهبين. لنكون هناك في صباح الخميس، هذا بعد أن ذهب هو إلى الشقلة غرب النورانية. لم يكن وقتها الطريق معبدًا (مسفلتاً). قد تحركتُ في رفقة أخي أحمد في الصباح الباكر بعد صلاة الصبح من قريتنا زينوبة إلى سوق أم شوكة، حيث أخذنا أحد اللّواري الذاهبة إلى سنار ثم نزلنا في لفة الطريق عند قرية خليل.
نزلنا في لفة خليل (انحناءة في الطريق قبالة قرية خليل) حسب الموعد الذي اتخذناه مع والدنا. لم نلبث كثيرا حتى رأيناه في الأفق يسير وحيدا، كأبي ذر الغفاري، عندما رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصاً مع خط الأفق. وقد أنهك الناس المسير فرجع بعضهم ومكث بعض آخر. أما أبوذر فقد نفقت دابته فلم يقعده ذلك، حيث واصل المسير. قال (ص) كن أبا ذر. فقد كان أبوذر، ليقول (ص) ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء اصدق من أبي ذر. كان الحاج عبد الله، كابي ذر، يسير نحونا من الغرب إلى الشرق في اتجاه الشمس، والشمس تُظلِّلها غيمة صباحية، فتظلل الأرض ثم يسطع عليها النور فتبدو الأشياء واضحة. لا شك أنه في ذلك الوقت لم يتناول فكة ريق (إفطار) ولا كباية شاي، فقد تحرك فجراً من التاية (معسكر الزراعة). ولم يعرف في ذلك الزمان أن يهتم والد (خاصة في البادية) له أنعام وزرع أن يدخل في مجاذفة ارسال أبنائه ليقاسي هو الخدمة متعددة المهام ، لله درك. رجع أحمد راجلاً (نحو أثني عشر كيلومتر) للحِلّة، فلم يكن يطمع في وجود عربة راجعة في اتجاه مشواره. بعد انتظار لم يمتد طويلا حتى أتي لوري أوستن يتهادى يحمل جوالات ذرة وبعض الركبان من جهة الصعيد وهو في طريقه لود مدني عبر سنار ، وربما الخرطوم بعدها. ركبت مع والدي، نحمل حقيبة واحدة خضراء من القماش المشمع مكتوب عليها بخط مشابه لهذا Traveling Bag، كانت مشهورة في ذلك الزمان عليها هذا النص بالانجليزي وصورة لطائرة، بها ملابسي وغيارين لأبي.
كان هذا مشواري الأول الذي أعبر فيه حدود مجلس ريفي سنجة شمالاً نحو سنار ومدني. في سنار تناولنا فطورنا ثم واصلنا المشوار إلى مدني. وقد كان الوقت في بداية موسم الأمطار كانت اللّواري تسلك الطريق الموازية لترعتي الجزيرة والمناقل، حيث توقف اللوري في قنطرة سبعة وخمسين (الكيلو رقم 57 من سنار)، تلك القنطرة في منتصف المسافة بين مدني وسنار. في القنطرة صلينا الظهر وتناولنا شاياً، إذ كانت هناك بعض المطاعم و المقاهي التي تبيع الطعام والشراب للمسافرين، وقد اندثر ذلك السوق بعد إنشاء طريق سنار مدني في نهاية السبعينيات. من ضمن المسافرين الذين توقفوا في القنطرة قابلت صديقي وجاري في داخلية سنجة الأخ عجب محمد بابكر، من أبناء قرية زين العابدين شرق سنار، وكان ذلك في اللحظة الأخيرة من مكوثنا في القنطرة وقد كان في طريقه أيضا لمدني لاستخراج شهادته من مدني حيث كانت رئاسة مديرية النيل الأزرق (تضم ولايات الجزيرة، سنار، النيل الأزرق والنيل الأبيض حاليا) وبها مكتب التعليم الذي يستخرج منه الشهادات. لا أدري أين أكمل عجب دراسته ، لكن عرفتُ أنه اختار مجال التدريس حيث استقر بقرية ود الخليفة المجاورة للحواتة.
نزلنا عصراً في مدني وذهبنا لمنزل أبناء حاج خليفة البُصيلي في حي ود أزرق، والذين تربطهم بأهلنا صلة رحم، إذ أن والدة أبناء حاج خليفة هي خالة عمنا السيد ود أحمد وعمنا أبوالقاسم الفكي إبراهيم، وأبناء حاج خليفة منزلة لأهلنا القادمين من ناحية سنجة، كما أن أستاذ سراج حاج خليفة الذي عمل مدرساً في المنطقة كان يزور زينوبة للمناسبات الاجتماعية ، ويونس حاج خليفة الذي كان يعمل في بيطري ود مدني قد زار القرية مرة أو أكثر. في الصباح تحركتُ مع والدي إلى سوق مدني حيث اشترينا شنطة جلد، لعمري في الثانوية قد تجاوزنا شنطة الحديد إلى شنطة الجلد الحديثة في ذلك الوقت، فهي مبطنة بالقماش وبها جيب داخلي، ولها أقفال جزء منها بدلا من شنطة الحديد التي تغلق بطبلة، وقد تنامت ثقافتنا في الطبل أثناء فترة الثانوية العامة، الطبلة (ماركة كاتو) مصنوعة في المجر، الطبلة المسوكرة (لا يمكن فتحها دون مفتاحها) من النحاس واخري مسوكرة من حلقات حديدية وثالثة صينية يمكن فتحها بالسلك كما يمكن فكها وتركيبها وقد اتخذنا المفاتيح ذات السلاسل التي نضعها في الجيب ونعلق حلقة السلسل في حمالات الرداء حتى يكون المفتاح في حرز حريز.
هناك قمتُ بتحويل ملابسي إلى الشنطة الجديدة وأضفت بعض الملابس والمستلزمات الجديدة وجزمة كموش (جزمة من الجلد خشنة المظهر)، لأترك الحقيبة للوالد. وقد سأل صاحب المحل الوالد وعلم منه أننا في طريقنا إلى حنتوب والتي لا تضاهيها أكسفورد في ذلك الوقت. وقد أبدى صاحب المحل أسفه لعدم إحراز إبن له ما يدخله إلى حنتوب، قائلاً أن من يدخل حنتوب يستحق أن يشترى له كل شيء، وقد قام الرجل بالتجاوز في السعر إكراماً للابن الذاهب لحنتوب.
من هناك سلكنا طريقنا للبنطون الذي يتخذ مرفأً (مشرع) إلي الشرق من حي الموظفين بمدني (الحي البريطاني)، مروراً بنادي الجزيرة وعلى جانب المشرع شجرة حراز وارفة الظلال، يتخذها الناس مظلة في انتظار البنطون. يتجه البنطون في سيره نحو الشاطئ الآخر شرقاً حتى يتجاوز مشرع حنتوب إلى الشرق ثم يرجع إليه باندفاع تيار الماء. طالما اتخذنا ذلك البنطون جيئة وذهاباً إلى مدني في النهار والليل. والنيل والقمر يلمع (في الظلام زي سيف مجوهر والنجوم من غير نظام، أقول سلام) على سطح الماء الرجراج بواسطة اندفاع البنطون مع رائحة الجروف على الشاطئ قرب مشرع مدني، ذلك مشهد محفور في الذاكرة. وقد تغنى طلاب حنتوب للبنطون الذي كان جزءا من حياتهم:
البنطون لا مرسى حقيقي
ولا قانون... ولا يحزنزن
زمانه فات غنايهمات
والريس واقف تمثال غردون ..
ولا يحزنون.
وحقيقة لم نكمل فترة الثلاث سنوات بحنتوب حتى تم افتتاح كبري حنتوب الشهير، فلقد فات زمان البنطون بالفعل. أما مشرع حنتوب من الناحية الشرقية، كان به عدداً كبيراً من المطاعم والمقاهي من القش التي تعرض خدماتها لبيع الطعام وشاي اللبن على مدى أربعة وعشرين ساعة، وبعض الدكاكين لبيع بعض المستلزمات، يؤمه العابرون والمنتظرون العبور والطلاب لتناول الشاي وشراء بعض المستلزمات رغم ما بالمدرسة من بوفيهات وحانوت (تعاون المدرسة). وإلى غرب المشرع مباشرة طلمبة مياه على النيل نصب لتسقي حدائق المدرسة، داخلياتها ومنازل المعلمين. يعج المشرع باللّواري القادمة من الشرق من القضارف وود الركين والشريف يعقوب ود المهيدي. المواشي المجلوبة لسوق مدني وبائعي اللبن (اللّبانة). هناك كان يقف بنطون ضخم خاص بمشروع الرهد الذي كان يجري تنفيذه وقتها وتجلب له الآليات (الجرارات، الكراكات والحاصدات وعربات الموظفين). وإلى جانب ذلك كان هناك عبّارة (معدية) خاصة بمدرسة حنتوب، تعرف بالرفاص، يرفرف فيه علم المدرسة وعليه الشعار المشهور (رأس هدهد). الرفاص يقوده رجل داكن السمرة، ناعم الشعر، يصففه إلى اليسار بعد قسمة الجزء القليل نحو اليمين، وقد وخط بعض الشيب ينها على شعره، يرتدي بنطالا وقميصا أبيضين كما اللبن. تراه يقف في مقدمة الرفاص قرب نهاية السقالة ليفحص مستندات ويتفحص وجوه الداخلين إلى الرفاص بنفسه، يهبهب شعر مقدمة رأسه مثل ما يرفرف العلم في السارية أمامه. كان ذلك العم عبده المعروف بالضبط وقوة الملاحظة لإرجاع أي طالب لا يستوفي الإذن المكتوب والمظهر اللائق (زي مكتمل ونضيف). وقد غنى الطالب محمد الحسن من داخلية دينار (من قرية الدناقلة شرق مدني) في الموسم المسرحي 1976م، منولوج عَدِيْ بي عم عبده عَدِيْ على وزن أغنية إبن البادية هَدِي بي يا شوقي هَدِيْ، هَدِيْ بي قبال تَوَدي ، تقول بعض كلمات محمد الحسن الطيب (من أبناء قرية الدناقلة شرق مدني) من ذلك المنولوج:
عَدِّي بي عم عبده عَدِّّي.
عدي بي قبال تهدي.
إنت ما ملزمني حدي.
بس تشيل فوقي وتودي.
ما كفاية الشرة ديك
الفيها كملت التسالي.
أي حفلة ندنكلا.
تدخل إنت تفشّلا (إنت.. إنت ماشي وين، تعمل شنو؟)
........... إلى أخر المنولوج.
في البنطون وجدنا عدد من الطلاب الجدد وأولياء الأمور مع بعض الطلاب القدامى، وقد عرفنا أن الطلبة الجدد توجد أسماؤهم في لوحة في مدخل المدرسة. كان المشوار من مشرع البنطون إلى المبنى الرئيسي للمدرسة في حدود الكيلومتر أو أقل قليلاً، سلكنا الطريق المشهورة برمالها وأشجار حرازها، وقد بدأت أغصانها جافة مع مطلع موسم الخريف. لم تكن هناك مواصلات، بل لا يحتاج عادة الناس لمثل هذا المشوار القصير الذي لا يتجاوز العشرة دقائق إلى وسيلة مواصلات. المباني في يمين الشارع منازل للاساتذة وعلى شماله منزل مدير المدرسة والوكيل مسورة بنباتات الحناء. ثم بعد ذلك ميادين كرة القدم والألعاب الرياضية. خمسة ميادين مخْضَرّةٌ بعناية.
الميدان الأول منها به مدرج لزوم المباريات. واقامة الاحتفالات. أما الميدان الخامس هو ميدان الحرازة ، به شجرة حراز ضخمة يخصص لالعاب القوى. ثم وصلنا إلى بعض الداخليات الشرقية (المك نمر، الزبير وبينهما السفرة العملاقة، وهناك دينار ودقنة إلى اقصى اليمين)، مرورا بميادين الكرة الطائرة المسورة بالحناء، وميادين كرة السلة المرصوفة بالبلاط. مدخل المدرسة أمامه سارية وعلم من الحرير الاصفر عليه الهدهد شعارا.
لم تشمل الخارطة منازل المعلمين، جامع المدرسة الكبير، ميادين كرة القدم الخمسة. لم نلبث كثيرا فقد وجدتُ اسمي في داخلية ود عدلان التي تقع جنوب مدخل المدرسة بنحو مئتين متر، ويربطها طريق مرصوف وعلى جنبيه نبات النرجس في خطين متصلين متوازيين من مدخل المدرسة إلى قرب مدخل داخلية ود عدلان، حيث ينتهي الطريق إلى مثلث زرع بنباتات الجهنمية (البوقانفليا) الخضراء الأوراق وقرمزية الأزهار. لقد حُف طريقنا في حنتوب بالزهر. ويحازي ممر النرجس من جهة الغرب سور من الحناء وشجيرات القاردينيا بيضاء اللون، وراءه المُصلَّى، المسرح والميدان الأول لكرة السلة (به مدرجات). هذا إلى جهة الغرب أما ناحية الشرق من الطريق فتوجد ميادين الكرة الطائرة وكرة السلة. وقد كان الأستاذ هاشم سليمان أستاذ الرياضيات، وهو صاحب ذاكرة فوتوغرافية، كان حاضراً بنفسه أمام لوحة الأسماء حيث يقوم بالتعرف على الطلاب الجدد مباشرة مرة واحدة لا ينسى بعدها شيء عنه، كما يتعرف على أولياء أمورهم عند القدوم. ذهبت مع والدي إلى الداخلية، حيث وجدت اسمي في عنبر ود تكتوك الذي يقع في الركن الجنوبي الشرقي من الداخلية. ودعني الوالد مكررا وصيته (كما وصى ابراهيم عليه السلام بنيه) : ما تخلي الصلاة، (اسأل الله له أن يجزيه عنّي خير ما يجزي والد عن ولده)، بعد أن سلمني مصاريفي التي بلغت جنيهين وقتها.
كان رئيس الداخلية وقتها الطالب متعدد المواهب الحاج إدريس من الشريف يعقوب. كان الحاج طالب مثالياً وهو كابتن المدرسة في كرة القدم وكان عمادها في كرة السلة والكرة الطائرة وتنس الطاولة، ومعه الطالب محمد المبارك خالد (من ام روابة) والطالب عوض إدريس (من الشريف يعقوب) نواباً له، ويقيم رؤساء الداخلية في غرفة خاصة بهم الثلاثة، كذلك توجد غرفة لأستاذ مقيم بالداخلية لها مدخل منفصل في الداخلية، وقد كان الأستاذ المقيم في ذلك العام الأستاذ محمد الفاتح جميل، أستاذ الرياضة وهومن بلدة الشبارقة إلى الجنوب الشرقي من حنتوب.
أول طالبين تعرفت عليهما هما الأخ المرحوم د. محمد فخرالدين على مسعود من المسلمية، التي درس بها مع خاله استاذ عبداللطيف، وهو أصلاً من حوش بانقا. تخرج محمد فخرالدين في كلية طب جامعة الخرطوم وانضم للقوات المسلحة ليعمل بالسلاح الطبي، علمت أنه توفي في حادث حركة بطريق التحدي. لم نتقابل منذ أن تفارقنا في كلية العلوم بجامعة الخرطوم في العام 1978م. قصدته يوما في مكتبه بالسلاح الطبي بشندي في عام 2002م، عندما زرتها للتعزية في قريب لأحد الزملاء، كان اليوم خميس، لافاجأ بأنه تحرك إلى حوش بانقا. وبالفعل قد قابلتنا عربة ذات مقصورة مزدوجة عند مدخل مدينة شندي. ولم أقابله حتى نعاه الناعي لي في العام 2005م. الطالب الآخر الدكتور محمد حمدالنيل من المسلمية أيضا، وقد عرفت أنه درس الجامعة في الخارج واستقر بامريكا. ثم تعرفت من بعد في ذلك العنبر على الزملاء الصادق الشريف بركات، فيصل الزين، بشير يس، وقد جاءوا من مدرسة أبي حراز، ، مبارك عبدالمحمود من طابت، المرحوم عباس عبدالله الجزولي من العريباب شرق حنتوب (درس الاقتصاد في جامعة الخرطوم، توفي بالفشل الكلوي عندما كان مديرا للتخطيط بولاية نهر النيل) ، أحمد خلف الله (الحديبة) توفى باكراَ في حادث حركة بطريق مدني. هؤلاء من طلاب السنة الأولى،
كان هناك من هم في السنة الثانية معنا في ذات العنبر، حيث كان يخصص العنبر إلى نحو عشرين طالب من طلاب السنة الثانية والسنة الأولى، وتخصص عنابر خاصة لطلاب السنة الثالثة الممتحنين. من طلاب السنة الثانية هشام أحمد يوسف (الشرفة)، الطيب علي (السواجير)، الجيلي محمد أحمد (نسيم الجنة)، محمد أحمد الطاهر (طابت)، محمد الطيب علي (نوارة)، أحمد محمد أحمد (الجبلين)، يوسف محمد يوسف (أبوقوتة)، مصطفى الهجا (ود المهيدي)، أحمد اسماعيل (الحديب ريفي الجبلين)، حمدالنيل عبدالباقي (أم دوانة)، الفاضل عبدالمطلب (الرفاعيين). عبدالرحمن الجنيد (الشريف يعقوب)، علي ابراهيم (الدندر). أحمد محمد علي (الماطوري) موسى عبدالرحيم أبشر (ابوقمري)، لا بد أني نسيت البعض لكنه القليل.
بالداخلية عنبرين أخرين لطلاب أولى وثانية وعنبرين لطلاب السنة الثالثة أحدهما صغير نسبياً. ومن طلاب السنة الأولى معنا في داخلية ود عدلان يوسف أحمد عدلان من الشبارقة، والكامل أحمد طه من الحرقة، الماحي عباس (أم جريس) بشير يس (أبو حراز)، الطيب .... (أم عضام)، مبارك محمد أحمد (.... )، مبارك عبدالمحمود (طابت)، محمد المهدي ... (العقدة)، عبدالرحمن صالح (....)، منصور مصطفى محمد من جادين. ونحن بعد في السنة الأولى أدى منصور دور البطل في مسرحية ود عدلان (شاركان في بيت زارا) ومعه من الطلاب عبدالرحمن يوسف خالد). ابراهيم الضو آدم من سنار، عبدالرحيم عثمان محمد (بروفسور عبدالرحيم مدير جامعة الأمام المهدي)، من السريو الدمازين ابراهيم محمد ابراهيم (البزعي) من المناقل، والطيب عمر .... وقد جئنا من مدرسة سنجة الثانوية العامة واحد (الأميرية سابقاً) وعددنا تسعة، منهم عمر الطاهر جلجال (الرماش)، عمر يحي عمر (الرماش)، يحي آدم إدريس (النورانية)، مبارك العيس (ود العيس)، خالد حمد الفكي (ود العيس)، محمد رحمة الله حمدالنيل ( أبوقرع)، نسيت اثنين من الزملاء.
في حنتوب تظهر المواهب باكراً. كان إبراهيم محمد إبراهيم (البزعي) شعلة من النشاط. في السنة الأولى حاول أن يجرب الغناء لكنه لم ينافس (مع نجوم ذلك الغد)، عندما ظهر أول الأمر في حفل لوداع أستاذ المنّا علي المنّا، الذي غادر المدرسة لبعض دراساته العليا. نظمت الحفل داخلية المك نمر، حاول إبراهيم أن يغني لإبراهيم عوض أغنية دنيا غريبة دنيا، لكن كانت هناك أصوات أخرى، مثل صديق دقنة، عبدالله محمد الحسن (دينار) ومحمد الحسن (عنجة) وأخرين . وفي حنتوب لا يستطيع أن ينافس من ليس له موهبة كاملة وقدرات اضافية (تيربو). حيث كان عبدالله محمد الحسن من داخلية دينار يغني للكاشف (أنا ما بقطف زهورك بعاين) والتي غنى على وزنها مونولوج بذات البصمة اللحنية، تقول بعض كلماته ( أنا ما باكل فطورك بعاين يعيوني، العلبة فتحوها بعاين، والشطة أحصروها بعاين، والليمونة ,,...... بعاين .. اتحدا العزموني). خرج إبراهيم من ذلك الحفل بدون (حمص) كما يقال لمن لا يكسب الجولة، يقال (خرج من المولد بدون حمص). لكن إبراهيم لم يبال بالخطر، فهناك ليالي المسرح، ليبرز في شخصية (البقالله) أي البقاء لله. كما يظهر إبراهيم مرة أخرى في سباق الضاحية لينال الميدالية الفضية على مستوى السودان في الدورة المدرسية. وقد نال الذهبية وقتها الطالب الأمين وقيع الله (اللواء الأمين) من داخلية ود النجومي. وكان إبراهيم قائماً على حديقة الداخلية حيث نالت كأس الداخليات في عهده، كانت حديقة داخلية ود عدلان تعرف زهور الأقحوان (كريسانثممchrysanthemum ) والنرجس والايفوربيا والرسوليا وتزينها شجرة المانجو الوارفة وشجرات الليمون داكنة الخضرة . وقد كتب الطالب مبارك محمد أحمد (لا أدري اين مبارك منذ أن تخرج في كلية الآداب جامعة الخرطوم، لا بد أن أخذته العولمة بعيداً عن السودان). كتب مبارك مقالاَ في لوحة الداخلية بعنوان (بلاك تخرب. بلاك تخرب) يقصد أن داخلية ود عدلان لن تنافس بدون إبراهيم الذي ينافس في الرياضة وفي حديقة الداخلية وفي ليلة مسرح عدلان.
إلى جانب التوزيع في الداخليات هناك التوزيع في الفصول، فالطلاب المقبولين يتم توزرعهم إلى فصول السنة الأولى، وقد كانت سبعة أنهر. كان توزيعي إلى فصل ليوناردو دافنشي، أول فصل في ضلع المدرسة الشرقي من الناحية الشرقية، تفتح شبابيكه الشرقية نحو النادي وداخليات دينار ودقنة، ويجاوره من الجنوب مكتبة الجغرافيا (غرفة خاصة لتدريس الجانب العملي للجغرافية بها خرائط مختلفة، الكرة الأرضية، نماذج لحجارة لمادة الجيولوجيا، كما أن المنظار الفلكي المنصوب أما المدرسة جزء من أدوات حصة الجغرافية).
أما في فصل ليوناردو فقد تعرفت على على الزملاء الدراسة، ليت استطيع أن أذكر منهم (الأن بعد ثمانية وثلاثين سنة) وأرجو المعذرة وأن يسعفني من يطلع على هذه بالتصحيح و بالمزيد من التفاصيل:
الاسم الوطن
1 أبوعبيدة محمد الحسن ود المهيدي
2 احمد عبدالله الامين كتفية الحلاوين
3 الصادق عبدالله عبدالله زينوبة - سنجة
4 اسامة
5 الامين وقيع الله كوستي
6 البدري ابراهيم بابكر أبوعشر
7 جلال الدين الدسيس الجزيرة
8 حسان محمد زين مهلة
9 حسين الشريف عبدالعزيز كركوج
10 حمزة محمد توم أبوضراع أبوعشر
11 خالد الأمين قوي دلوت - رفاعة
12 الرشيد حمد الجراي الدندر
13 الرشيد عبداللطيف نقد الكاملين
14 الشيخ عبدالرحمن الشيخ كوستي
15 صديق التلب أبو عشر
16 كمال عووضة
7 الماحي عباس بابكر ام جريس
18 صلاح على محمد الخرطوم
19 صلاح علي عثمان ود الحداد
20 عبدالرحمن احمد حامد الدنيقيلة
21 عبدالرحمن الزين الحلاوين
22 عبدالرحيم حليوة
23 عبدالرحيم قدو
24 عبدالله رحمة التوم المدينة عرب
25 عمران المدينة عرب
26 عثمان الامين الرواشدة
27 علي أحمد عبدالله الجزيرة
28 الفاتح عبدالرؤوف المدينة عرب
29 فيصل وقيع الله الجزيرة
30 فيصل سيد أحمد الحاج عبدالله
31 كمال أبوعاقلة المحيريبا
32 كمال عبدالله الفاضل الحلاوين
33 مدثر خليل احمد
34 محمد الخضر عبدالله الكريمت
35 محمد الهادي الشيخ ادريس أبوعشر
36 محمد فخرالدين علي مسعود المسلمية
37 المعز عبدالله طابت
37 منصور مصطفى محمد جادين
38 موسى أحمد عبدالله عمارة البنا
38 موسى شرف الدين
39 صديق زُرقة
لا بد أني نسيت بعضهم ، نسيت من البعض بعض اسمائهم. وقد كان جاري في السنوات الثلاثة، عبر فصول أولى ليوناردو، ثانية الرازي، وثالثة ابن رشد المرحوم الدكتور محمد الخضر عبدالله (الكريمت)، من داخلية ود النجومي، الذي عمل باحثا في كنانة. كان محمد الخضر طالبا مجتهداَ لا يعرف الهزل، كان أول الطلاب حضورا باكراً إلى الفصل ومكوثاً فيه. ظللنا جيران حتى السنة الثالثة، فقد كان يحضر دوماً للمدرسة بعد العطلة ، قبل الآخرين يقوم بحجز درجين، واحد له وواحد لي، ويقوم بشراء القفل المناسب (رحمه الله رحمة واسعة). حضر محمد الخضر من كنانة لمناسبة زواجي عندما علم به في كوستي في عربته السوزوكي البيضاء في ديسمبر عام 1986، هذا بعد أن تخرج في جامعة جوبا، وقد كانت مفاجأة لي حضوره. بعدها ذهب لأمريكا، عرفت بوفاته مؤخرا. وآخرين حتما اندثروا وراء تلافيف الذاكرة التي امتد عليها الآن أربعة وثلاثون سنة.
حنتوب مدينة للعلم مكتملة، قد يصفها أي واصف، تبدو له منها أجزاء وتغيب عنه أجزاء. هي في الضفة الشرقية للنيل الأزرق قبالة مدينة ود مدني. تتجاوز مساحة مدرسة حنتوب وملحقاتها خمسمائة ألف متر مربع (يمكن حساب ذلك من خريطة قوقل)، وقد تأسست كإحدى ثلاث مدارس ثانوية نموذجية مع خورطقت في كردفان، وادي سيدنا شمال غرب أم درمان. تلتها مدارس أخرى ثانوية بنيت على قرارها لكنها أصغر في كل شيء.
دخلنا إلى مدرسة حنتوب في العام 1974م، بعد ثلاثة أعوام من يوبيلها الفضي، وقد وجدناها اكتسبت حُلّة جديدة لما وجدته من إعادة تعمير وتجميل، فقد كانت مبانيها في أنصع لون، وحدائقها في أبهى حُلّة. وقد احتفل بها الرئيس نميري ودعا لها خريجيها حتى الذي كان يناهض لحكمه منهم. يُحكى في هذا الصدد أن منح نميري حصانة لمحمد ابراهيم نقد المناهض لحكمه، وزميله السابق في حنتوب، منح حصانة ضد غلاعتقال حتى شهد حفل حنتوب ثم اختفى. هيئة تدريسها مكتملة بعمالقة العلم. فقد كان رؤساء الشعب بحنتوب ممن يضعون المنهج التعليمي وينقحونه. كان الأستاذ الطيب على عبدالرحمن مؤلف كتاب جغرافية السودان وحوض النيل، والأستاذ مصطفى عمر من نفس الشعبة، أستاذ أحمد بابكر. كان عبدالحميد العباسي على رأس شعبة اللغة العربية وفيها أستاذ محمد الحسن عكود ومختار الطاهر ثم محمد عثمان عووضة. وشعبة التربية الإسلامية كان عمادها أستاذ صديق عمر، أستاذ الجيلي، أستاذ الأمين صديق أستاذ حاتم. أما شعبة اللغة الانجليزية فقد كان فيها أستاذ محمد عثمان أبوصلعة، وأستاذ أحمد محمد الحسن، وأستاذ جعفر وأستاذ مختار. أما شعبة العلوم بمعاملها المكتملة (أحياء وفيزياء وكيمياء)، فقد كان على رأسها الأستاذ أحمد عبدالحبيب الترابي. الترابي مع صرامته وحذقه لمادة الفيزياء لديه قفشات شهيرة. واحدة منها أن احد الأجهزة لقياس الكهرباء يسمى الجلفانوميتر. يعمل الجلفانوميتر على فصل الكهرباء تلقائياً في خطوة معينة. وكان بالجهاز ثقل ناتئ قليلاً. ذلك الثقل يسهم في فصل احد الأجزاء المتحركة بفعل المغناطيسية التي يكتسبها بمرور التيار فيه. سأل الترابي، ما هي مهمة هذا الثقل قائلاً: معلقاً: دا معلقنه مشلعيب ولّ شنو؟. والمشلعيب هو أداة من الحبل أو السعف معلقة متدلية من مكان عال. يوضع عليها إناء اللبن (خاصة) خشية أن يتعدى عليه كلب أو قط بالطبع في المنازل القروية والخيم البدوية المفتوحة. ومن الأساتذة سليمان كيمياء وعبدالقادر كيمياء، وأستاذ يوسف أحياء وأستاذ يس. وفي الرياضيات : أستاذ هاشم سليمان، أستاذ حسين فارس، أستاذ المنّا علي المنّا. أما شعبة الفنون على رأسها الأستاذ عبدالحميد الفضل، إلى جانبه أستاذ النور موسى. وشعبة الرياضة كان على رأسها أستاذ طلب، و معه الفاتح جميل، أستاذ مامون، أستاذ أحمد المصطفى. وشعبة التاريخ بها أستاذ عبدالخالق وأستاذ مضوي. وشعبة الموسيقى بها الصول كامل، صول الموسيقى (كامل الأوصاف الكلك جمال وعفاف). ورتبة الصول في الجيش، وخاصة في سلاح الموسيقي هي رتبة المعلم. ويشرف علي جمعية الموسيقى أستاذ خيري (من الأساتذة المصر يين بالمدرسة استاذ الفيزياء بشعبة العلوم). كان يوجد عدد من الأساتذة المصريين منهم أستاذ سيف وأستاذ محمد عوض في شعبة اللغة الفرنسية، أستاذ ناجح بخيت أستاذ الأحياء بشعبة العلوم، أستاذ سمير أمين أستاذ الفيزياء بشعبة العلوم واستاذ شفيق نجيب أستاذ الرياضيات.
كان على رأس إدارة المدرسة الناظر محمد الأمين فرحات ووكيل المدرسة أستاذ يوسف احمد عبدالله. ويساعدهما في الضبط كل من الصول محمد محمود والصول محمد الزبير، والعم عبده قائد الرفاص. هذا إلى جانب قوة من الموظفين والفراشين والجناينية والطباخين، أشهرهم عمنا هبّاني، عمنا ود المقلي. وفي داخلية ود عدلان عمنا يوسف . يتردد صدى ذكرى حميدة أبوعشر الذي كان ضمن عمال حنتوب، كان يعمل نجارا وعندما نقل من حنتوب إلى الحصاحيصا، وقد ألف قصيدته الشهيرة التي لحنها ابراهيم الكاشف ، ومنها :
وداعا روضتي الغناء .. وداعا معبدي القدسي
طويت الماضي في قلبي .. وعشت على صدى الذكرى.
وهذا الدمع قد يُنبي .. بظلم المهجة الحيرى.
لماذا الهجر يا حبي؟، لماذا دهرنا ضنّ؟
وأشبع روحي باليأس.
وداعا.. وداعا.
نسيت الماضي يا ليلى .. ماضي الحب والطهر
سأظل أردد الشكوى .. لما لقيت من وجدي
حبيب الروح لا أقوى .. على حمل الهوى وحدي
ولمّا لم أجد سلوى .. كسرت إبريقي والدّن
سكبت على الثُرى كأسي.
وداعا روضتي الغناء
وداعا معبدي القدسي
وداعاً .. وداعاً
لا أدري إن كان الآن أحد يأتي أحد بمثل شعر نجّار حنتوب حميدة أبوعشر، وأغنيته الأخرى المسماة غضبك جميل زي بسمتك والتي اشتهرت بصوت المطرب عبدالحميد يوسف.. التي تقول أبياتها:
على كل حال شكلك بديع
وغضبك جميل زي بسمتك
حكم الغرام بتذللي وحكم الجمال بتدللك
الاشتياق والاحتراق والوجد لي
والابتسام والانسجام والحسن لك
عجباً تكون قاسي وديع
على كل حال شكلك بديع
وغضبك جميل زي بسمتك
نظرات عيونك محنتي
سحر الجمال في بهجتك خايف خدودك تنجرح من نظرتي
يا آية المعنى الرفيع على كل حال ادبك رفيع شكلك وديع زي بسمتك
كيف الخلاص يا دنيتي ما بين خضوعي وجبرتك
أراك قريب لكنك بعيد من بغيتي جُرْتَ وجَفيتْ وجفاك مريع
على كل حال غضبك جميل
من يا ترى يأتي بالأدب الرفيع ويغني للأدب الرفيع؟
مبنى مدرسة حنتوب الرئيسي عبارة عن قلعة رباعية الأضلاع. مبناها مسقوف بالزنك المطلي بالاخضر، وكل المباني على شكل جملون (ظهر تور).بها أربعة مداخل، المدخل الرئيسي إلى ناحية الجنوب عبارة عن صالة يعلق فيها الجرس، وأعلى سقف الصالة توجد ساعة ضخمة مثل ساعة بق بن. ومدخلين واحد إلى الشرق والثاني إلى الغرب في نهاية الضلع الجنوبي للمدرسة. المدخل الرئيسي يدخل منه طلاب داخلية عدلان وضيف الله. المدخل الغربي (الجنوبي الغربي) يدخل منه طلاب داخلية ود النجومي وأبوعنجة. أما المدخل الشرقي (الجنوبي الشرقي) فيدخل منه طلاب داخلية المك نمر، الزبير، دينار، دقنة، وابولكيلك. المدخل الشمالي يدخل منه طلاب داخلية جماع التي كانت في أقصى شمال المدرسة. تغلق المداخل مع بداية اليوم الدراسي عدا المدخل الرئيسي للتحكم في حركة الدخول والخروج. ويتكون مبني المدرسة من 21 فصل. كانت تسمى الفصول بأسماء مشاهير الفن والعلم مثل (ليوناردو، الرازي، ابن رشد، الخوارزمي، شوقي، ابن خلدون، ابن حيان) ومكاتب عديدة لرؤساء الشعب والأساتذة، وخمسة معامل للعلوم ومكتبة وغرفة للجغرافية ومعملين للفنون وصالة للموسيقى تدرس فيها دروس الموسيقى في أوقات المناشط عصرا وقبل ساعة المذاكرة. إلى جانب مكتب للكاديت ومخزن للسلاح. كما يوجد دكان للتعاون داخل مبنى المدرسة، يوفر مستلزمات الأساتذة والطلاب العاجلة والخفيفة.
أما خارج مبنى المدرسة فهناك مصلى إلى جنوب مبنى المدرسة كما يوجد مسجد للجمعة إلى أقصى الشمال الشرقي للمدرسة، تقع شماله الدروة (للرماية في منشط الكاديت وهي التربية العسكرية). كما يوجد نادي به بوفيه ومناضد للجلوس .
حنتوب مؤسسة تعليمية مكتملة بها عدد كبير من بيوت الاساتذة وبعض الميزات المخصصة للاساتذة. عدد الاساتذة ، يتجاوز الخمسين أستاذاً. وبالمدرسة عشرة داخليات (خمسة غربية وخمسة شرقية)، بكل داخلية خمسة عنابر وغرفة لرؤساء الداخلية وغرفة للأستاذ المقيم. سميت الداخليات بأسماء أبطال وقادة سودانيين (الزبير باشا، المك نمر، عثمان دقنة، علي دينار، محمد أبولكيلك، عبدالله جماع، محمد ودعدلان، محمد ود ضيف الله، حمدان أبوعنجة ، عبدالرحمن النجومي). كل داخلية تضم نحو 120 طالباً ليكون جملة طلاب حنتوب في ذلك الوقت نحو 1200 طالب، كلهم داخليون، حتى الطلاب من حنتوب الحِلّة وأبناء الاساتذة منهم. ومنها زميلنا احمد عبدالرحمن من داخلية ود عدلان في الدفعة التي سبقتنا، كذلك منها المرحوم الهادي هباني، أحد أشهر لهيبة كرة القدم هداف المدرسة، ابن عمنا هباني . وقد بنيت كل داخلية على شكل حدوة حصان. الحدوة مغلقة بأعمدة في شكل أقواس (آرش). الفضاء داخل الحدوة به حديقة تزرع بها بعض اشجار الفاكهة، وزرعت بقية الفضاء بالعشب (النجيلة)، يقسم ميدان النجيلة إلى نصفين بممشى في وسطه دائرة تزرع بأنواع الزهور، كذلك تزرع المسافات بين الأشجار في الجانبين بالزهور مثل الوينكا، الزينيا، عباد الشمس والممرات بالنرجس. تسقى الحدائق في حنتوب بواسطة شبكة من أنابيب المياه الخاصة يضخ فيها الماء من طلمبة على النيل مخصصة للغرض. كما تسقى الطلمبة ميادين كرة القدم المحفوفة بأشجار الجميز (اللبخ) أو الFicusالضخمة، وكل الميادين مزروعة بالعشب (النجيلة) تمارس فيها مناشط كرة القدم. الميدان الأول به مدرجات لأقامة مباريات الدوري والفرق المستضافة و الاحتفالات. هذا إلى جانب مناشط المهرجانات. أما ميادين الكرة الطائرة وهي خمسة ميادين محفوفة بنبات الحناء، كذلك ميادين كرة السلة مرصوفة بالبلاط، والميدان الأول منها به مدرجات لإقامة منافسات كرة السلة.
يوجد بالمدرسة مسرح تقام فيه منافسات المنازل (الداخليات) بمعدل يوم مسرحي كل أسبوعين، تجرى بواسطة القرعة، بدءًا من الشهر الثاني لتستمر لمدة خمسة أشهر. يتم تقييم كل يوم مسرحي بواسطة لجنة من الأساتذة تعلن النتيجة بعد إنتهاء الموسم المسرحي.
وتقام المنافسات الرياضية المختلفة في مدرسة حنتوب بين المنازل(الداخليات) ، ومنافسة كأس الحدائق والنادي العلمي ويوم الخريج الذي يلتحم فيه خريجو المدرسة في مرحلة الجامعة مع طلاب المدرسة ومن بينهم طلاب سنة أولى الجدد. كذلك هناك أسبوع المعارض الذي تشترك فيه شعب المدرسة المختلفة يدعى فيه المواطنون من حنتوب ومدني والضيوف من المدارس المختلفة ودواوين الحكومة.
كل هذه المناشط تحسب بعناية وتوضع في جدول مواز ومكمّل للجدول الأكاديمي بحيث لا تتعارض المناشط مع التحصيل العلمي. فيما عدا المعارض العلمية يقوم أساس التنافس بين المنازل وليس بين الفصول مما يجعل التنافس في أعلى معدلاته، ويجعل أوقات ما بعد الدوام ورش عمل دائمة للبروفات والاجتماعات لتحديد المشاركين في شتى المناشط. هذا بجانب جدول المناشط الأسبوعية للتمارين الرياضية في وقت العصر (بعد ساعة الراحة والمذاكرة الرسمية). فيتم توزيع الميادين المختلفة بعناية ويشرف عليها أساتذة التربية الرياضية ( استاذ طلب (رحمه الله)، استاذ احمد المصطفى، استاذ مامون، استاذ الفاتح جميل). أيضا هناك جدول للمناشط الطوعية مثل تدريب الكاديت (الصول محمد محمود والصول محمد الزبير وبالطبع حكمدارات الطلبة من قدامى طلاب الكديت). والذي يمتد لمن ينضم للكاديت طيلة السنوات الثلاث ويتم منح ترقيات كتقليد عسكري، فقد يتخرج الطالب وهو برتبة الرقيب أوالمساعد. يقوم الطلبة أصحاب الأقدمية في إدارة طوابير التمرينات والاستعراض تحت إشراف الصول محمد محمود والصول ود الزبير. وكم يقف من هم خارج طابور الكاديت من الطلاب والمواطنين مشدوهين للعرض العسكري للكاديت. وعندما يقود الصول محمد محمود طابور العرض من الدروة وحتى الميادين بصوته المميز مرددا ويردد الطابور معه: ( الليل برد يا شمة .. والصيد ورد يا شمة)و يردد الطابور ورائه وغيرها.
تدير مدرسة حنتوب برنامجاً أكاديمياً صارماً. يجلس الطلاب للإمتحان مرتين في السنة الدراسية، امتحانات منتصف العام وامتحان نهاية العام، وتلتزم مدرسة حنتوب بإقامة امتحانات الملاحق لمن لم يجتاز المعدل المطلوب ولا تترد الإدارة في رفت من لم يستطع أن يحرز الأداء المطلوب. وفي ذلك كان برنامج المذاكرة المسائية لمدة ساعة ونصف يوميا برنامجا لازما يؤخذ فيه التمام ويعاقب من يتخلف عن المذاكرة إن كان ذلك بالداخليات أو ذهابا لمدني. يتطلب الاستئذان من لديه عذر مقبول للبقاء بالداخلية (حالة المرض) أو الذهاب لمدني وذلك محدود للغاية. يكمل ذلك مسئولية رؤساء الداخليات عن من هو مريض بالداخلية، ومسئولية عمنا عبده في الرفاص والذي يفحض اذن العبور لمدني، كذلك الأستاذ ضابط الداخلية والأستاذ المقيم يقومون باستلام تقرير تمام الداخلية اليومي في العاشرة مساءا. وتعقد مدرسة حنتوب لطلابها الممتحنين للشهادة امتحانا تجريبياً بما يعرف بالانجليزية (MOCK EXAM) سنوياً قبل الامتحانات الرسمية بشهر، ينفذ بذات الطريقة في الامتحان الرسمي، من توزيع الأدراج ووضع أرقام الجلوس وأوراق ومراقبة وتصحيح وإبراز أوجه القصور للطلاب. وفي أبريل عام 1977م جلسنا نحو 350 طالباً من مدرسة حنتوب الثانوية، ليكون عدد طلاب حنتوب المقبولين في جامعة الخرطوم وحدها نحو 120 طالباً (أي نحو طالب من كل ثلاثة دخلوا جامعة الخرطوم الجميلة ومستحيلة). كان الجالسون في ذلك العام للشهادة الثانوية السودانية نحو أربعين ألف، ليتنافسوا في أقل من ألفي فرصة في الجامعة (خمسة في المائة فقط يدخلون جامعة الخرطوم، وقد أدخلت حنتوب ذلك العام نحو ثلاثين في المائة من طلابها الممتحنين)، رغم أنه في ذلك العام بدأ القبول لجامعة جوبا وجامعة الجزيرة، إضافة للجامعة الإسلامية ومعهد الكليات التكنولوجية (جامعة السودان حالياً)، ثم جامعة القاهرة فرع الخرطوم (النيلين حالياً). وقد كان التدريس هو المهنة الجاذبة لخريجي الثانويات. أما الذي لم يجد فرصة للقبول يقوم بالتقديم للمنح المصرية أوالروسية، وبعضهم يذهب مباشرة هناك ويقوم بالتقديم ويجد نصيبه هناك.
جلستُ لامتحان الجامعة ( الشهادة السودانية) تحت رقم الجلوس 261993، لأحرز نسبة 67.2 %، كانت معدلات المواد كالتالي: رياضيات 83%، فيزياء 75%، كيمياء 69%، أحياء 67%، انجليزي 45%، الجغرافيا 63%، اللغة العربية 70% والتربية الإسلامية 64%. وقد فقدت بعض الدرجات في مادة الأحياء تصل لعشرة درجات بسبب عدم الإجابة على سؤال الصفحة الأخيرة وفيه رسم. وقد كان البوكسنق الذي حسب للدخول للجامعة وهومجموع أفضل ثلاثة مواد علمية هو(227) رياضيات (83)، فيزياء (75) وكيمياء (69)؛ وقد جليت من الطب بستة درجات ، رب سبب اساسي فيه أني لم أجاوب الاسئلة في الصفحة الرابعة لورقة الاحياء.. ظناً مني أني قد استوفيتها.. على كل حال لم أندم.. فتلك خطوات كتبت لي.. أحمد الله عليها كثيراً، فما تيسر لي من الحياة، ما كان يتيسر لو كنتُ طبيباً.. فقد سلكت طريقاً متعدد المهام.. من مفتش للزراعة في تخوم كوستي.. إلى مفتش تنمية ريفية في جنوب كردفان، إلى دارس في المملكة المتحدة، وإلى غيره حتى دبلوماسياً في شرق افريقيا..
كان يتوقف القبول في الجامعة على المرور في اللغة الانجليزية، التي كانت نسبة النجاح المعتمدة فيها (30%)، حيث يجلس المرشحون للدخول للجامعة ولم يتحصلوا على درجة المرور في اللغة الانجليزية لإمتحان ملحق قبل تسجيلهم في الجامعة. وعندما يذاع كشف الطلبة المقبولين في الجامعة في راديو أم درمان (الاذاعة الوحيدة في ذلك الوقت) يتبع اسم من سيجلس لامتحان ملحق بالجملة (يتوقف قبوله على نجاحه في مادة اللغة الانجليزية). كما أن المرور في اللغة العربية شرط لازم للحصول على الشهادة الثانوية. فقد كانت الإستراتيجية التي يتبعها الطلاب تتمثل في التركيز على ثلاثة مواد للمنافسة في البوكسنق وليس بالنسبة العامة للشهادة، مع الحرص على عدم الرسوب في اللغة العربية. وقد أفقدتني تلك الاستراتيحية ممانعتي بعدم أخذ مادة الفنون، باعتبارها مادة اختيارية، و انها ستكون خصماً على بقية المواد، هذا رغم أن الاستاذ عبدالحميد الفضل قد طلب منّي أن أسجل لمادة الفنون، فرفضت. وعدتُ أطلب من أبنائي من بعد أخذ مادة الفنون فيرفضون.
لم تكن للجالسين في العام 1977م فرصة الرُقْعَة والتي كانت متاحة قبلها، حيث يجلس الطالب لتحسين مجموع البوكسنق في مادة أو مادتين فقط تحسب له للدخول للجامعة. فهذه الدفعة تمثل الفاصل بين النظام التعليمي السابق والسلم التعليمي الجديد. وعندما ألغيت تلك السياسة تكبد الطلاب مشاق الإعادة كاملة مع محدودية فرص الجامعة، ووقد إمتدت تقاليد الإعادة لفترة امتدت منذ العام 1977 وحتى العام 1990 (مدة 13 سنة ) ظلت فيها الإعادة ديدن يمتد لسنتين أو ثلاثة أومفارقة التعليم النظامي.
تغنى طلاب حنتوب في لياليهم المسرحية بمونولوجات تحكي ذلك التحدي، منها. منولوج للشاعر المعتصم سرور والذي وجدنا سيرته العطرة في مدرسة حنتوب، تقول بعض كلماته:
خليتيني في حيرة مجموعك نمره كبيرة.
يالجامعة إن شا الله تطيري عايزين نمسك طباشيرة.
كلما تذاكر يغلبك البوكسنق يطير قلبك
كان جبت شهادة يقولولك سجمك يخربك.
البوكسنق أي (Boxing) هو عمل خيارات للمواد في شكل مجموعات (BOXES) ثم اختيار أفضل خيار (BOX)من ثلاثة مواد أساسية للمنافسة للدخول للجامعة، بعد الحصول على شهادة نظيفة. ومونولوجات أخرى تسب لجدول مندليف في الكيمياء، وتتمنى أن لا تلاقي إبن المقفع في البلاغة، وتلعن مادة الجيولوجيا ضمن منهج الجغرافيا. رغم ذلك تسجل حنتوب أعلى معدلات الدخول للجامعة. وفي ابريل ن عام 1977 جلستُ لامتحان الدخول للجامعة، ورجعت منها بالرفاص، ثم عدتُ في يوليو من ذات العام لاستلام تفاصيل الشهادة، لكن كان ذلك عن طريق كبري حنتوب مدني الذي افتتح في مايو من ذات العام.
الصادق عبدالله عبدالله
[email protected]
حنتوب 1974-1977- ودعدلان، ليوناردو، الرازي، ابن رشد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.