كان جمال بجلبابه الفضفاض ولحيته الكثة التي بدأ الشيب يغزوها من جهات عديدة يتحرك في المدينة بحرية ورشاقة ومرونة وهو يسحب عربة «الكارو» من خلفه وينثر الشعر احيانا ويناقش في الرياضة والثقافة والفن وصوته الجهور يتخطي حدود المكان الذي يجلس فيه وما بين اروقة السوق ذات الاسقف المقوسة وشوارعه الترابية حيث يعرفه الناس «بالمارد» او«ماردونا» وصار اليوم ينادونه بجمال آثار كلقب جديد حصل عليه بعد ان ابلغ عن وجود موقع اثري جديد يتعرض للهدم في موقع مصنع بلاستيك تحت التشييد شرق مدينة بربر وقد وصفت الهيئة القومية للآثار ذلك الموقع المهم تاريخيا، فكيف عرف جمال «المارد» ذلك الموقع بأنه ذو طبيعة اثرية هامة ولماذا تعرضت تلك الآثار للتهديد ومن المسؤول عن ذلك الامر. يقول «المارد» لقد كنت في طريق عودتي من الوديان البعيدة حيث اعتدت ان احضر الحصى من تلك المناطق وعندما اقتربت من موقع الحفر الخاص بقواعد مصنع البلاستيك وجدت بعض الاواني الفخارية ذات الزخارف تبدو مهشمة وعندما نظرت الى بعض المواقع التي حفرت لاحظت بقايا الهياكل العظمية والطوب الضخم المحروق فقلت للعمال بأن هذا الموقع به اثار ويجب ان يوقفوا العمل فيه ولكن احد منهم لم يستجب، وبعضهم قال لي ماذا تقصد بالآثار، وعدت الى السوق واخبرت بعض الناس بأن الانشاءات التي تتم في مصنع البلاستيك يقع تحتها موقع اثري بعضهم ظن انني اعاني من تخيلات فذهبت الي جهاز الأمن وابلغتهم بالأمر ثم ذهبت الى الشرطة واخبرتهم وكذلك قمت بالاتصال هاتفيا بالدكتور صلاح محمد أحمد خبير الآثار الذي اعطاني هاتفه احد العمال الذين يعملون في موقع الدانقيل، والذي ابلغ بدوره هيئة الآثار الي ان تم ايقاف العمل في الموقع واعلانه موقعا اثريا. وكانت «الصحافة» قد تلقت اتصالات هاتفية من «المارد» تفيد بأن هنالك موقعاً اثريا تحت موقع الانشاءات، ولكن مهندس الموقع لايريد ان يوقف العمل في الموقع وعلي الرغم من أن هيئة الاثار لم تكن تتوفر لديها معلومات كافية عن ذلك الموقع حين وصلنا اليها سوى بلاغ مقتضب عندما وصلت «الصحافة» اليها مستفسرة عن بلاغ جمال، الا انه خلال يومين كان هنالك تأكيد علمي بأن هنالك موقعا اثريا ابلغ عنه سائق عربة «كارو» يدعى جمال المارد، ويقول التقرير الذي حرره مفتشو الاثار والذين زاروا الموقع وحصلت «الصحافة» على نسخة منه تقع المنطقة التي بها اكتشاف القبور شرق استاد بربر بحوالي 2 كيلو متر والي الشرق قليلا من المقابر الحديثة وغرب طريق بربر ابوحمد بحوالي 500 متر وهي منطقة مسطحة يكسو سطحها الحصى وكسار الحجر الجيري والرمل الناعم وقد تم داخل هذه المساحة حفر 112 مربعا بعمق 2 متر لصب القواعد الخرسانية للمصنع وخلال عمليات حفر المربعات ظهرت عظام بشرية واواني فخارية باحجام وانواع مختلفة». واوضحت هيئة الآثار بأن بالمنطقة تعد موقعا اثريا ولعل ما ذهب اليه التقرير من ان في هذه المنطقة موقعا اثريا يطرح تساؤلاً فرضيا وهو هل كانت هذه المنطقة معروفة بأنها منطقة آثار أم ان هذا الاكتشاف جاء مصادفة عند رؤية «المارد» له، ويذهب التقرير الحكومي في تحديده لاهمية المكان حيث ذكر ذلك بالنص التالي :« والجدير بالذكر ان الموقع المكتشف يقع في دائرة المسح الاثري من بربر الى العبيدية والذي تنفذه كوادر الهيئة بالتعاون مع متحف اونتاريو الكندي والمتحف البريطاني ويتركز عملهم حاليا في منطقة الدانقيل شمال بربر»، فمن هو المسؤول عن قيام الانشاءات والمباني في منطقة صنفت بأنها داخل دائرة المسح الاثري؟ فقد كان نتيجة لذلك بأن تسببت اعمال الانشاءات في الموقع بتجريف عدد من المقابر الاثرية وقد حدد التقرير القبور بحوالي 50 مقبرة اثرية في طول وعرض مساحة المصنع، حيث يقول التقرير في الفقرة الثانية منه وفقا لما شاهده مفتشو الآثار ما يلي : «من خلال معاينة الموقع فقد لاحظنا ان عمليات حفر المربعات بالموقع جرفت عددا كبيرا من القبور بلغت حوالي 50 قبراً وقد كان الجرف والدمار الذي لحق بالقبور نسبيا وقد تعرضت بعضها للجرف كليا وبعضها بشكل جزئى حيث وجدنا اجزاء من العظام البشرية والاواني الفخارية واضحة للعيان داخل هذه المربعات المحفورة»، وعلى الرغم مما ذهب اليه التقرير بأن هذه المنطقة كانت تبدو واضحة للعيان بأنها منطقة أثرية، إلا ان الجهات المنفذة للحفر لم تتعامل مع الأمر بالاهتمام المطلوب كما يبدو فهل كان الامر متعمدا؟ أم انه تم بغير دراية . ويقول جمال «المارد» على الرغم من انني ابلغت الكثير من الجهات الا ان العمل في الموقع كان مستمراً حتى وصل مفتشو الاثار واوقفوا العمل، ويذهب التقرير مرة اخرى في الاجابة على درجة الاهمية التي يمثلها الموقع واشكال الدمار التي لحقت به وطريقة التعامل التي تم بها ذلك من قبل الجهات المنفذة لمصنع البلاستيك وذكرها التقرير بالقول: «ان المقابر بالموقع تعود لفترة مملكة مروي في القرن الرابع قبل الميلاد الى الرابع الميلادي ويعد من الامثلة القليلة المعروفة لمقابر العامة من ذلك العهد وهي شبيهة بالمقابر المروية المعروفة في كل من الدانقيل وقبانتي من حيث شكل القبر واتجاه غرف المدفن والاواني الفخارية والاثاث الجنائزي الذي يوضع للمتوفي، وهذه القبور عادة لها ممر مدرج ينحدر من الشرق الى الغرب الي غرفة المدفن في اقصي الغرب م يمتد شمال جنوب ، لها مدخل يغلق عادة بالطوب الاخضر او الطوب المحروق ويلاحظ وجود كل من الطوب الاخضر والطوب المحروق وان احجام الطوب تماثل الطوب المروي. ويذهب التقرير في وصف كيفية التعامل الذي تم مع القطع الاثرية حينما ذكر «خلال التواجد بالموقع قمنا بجمع الاواني الفخارية الظاهرة للعيان من داخل القبور المعروفة وهي عبارة عن جرار فخارية كبيرة الحجم بعضها اسود اللون له زخارف حول العنق اضافة الي بعض السلطانيات ، كما تحصلنا على الاواني الفخارية الاخري التي كانت بحوزة مهندسي الشركة بالموقع كذلك تلك التي كانت لدي جهاز الأمن بمحلية بربر». وهكذا بدأ المشهد في تلك المنطقة البعيدة عن اذهان الكثيرين يتناثر التاريخ بين معاول عمال البناء ومصنع بلاستيك لم يلتزم بالاجراء حيث تذكر المادة «10 - 2» الفصل الثاني من قانون حماية الآثار لسنة 1999م والتي تنص علي انه لا يجوز اقامة مشروعات تنموية الا بعد اكتمال الدراسات والمسوحات الاثرية علي ان تتحمل الجهة المستفيدة تكلفة تلك الدراسات وعمليات الانقاذ اللازمة، فمصنع البلاستيك والذي يتبع لصندوق الضمان الاجتماعي المالك لمصنع البلاستيك في مدينة بربر لم يثبت بأنه التزم بما جاء من نصوص في قانون حماية الآثار وجهات اخرى حكومية في ولاية نهر النيل تتحمل معه المسؤولية كان عليها ان تتابع الاجراءات التي تتبع في الم ناطق التي يرجح أن يكون فيها آثار، اما الجهات المنفذة للمشروع فلا يزال السؤال يطرح نفسه بلا اجابة لماذا احتفظ المهندسون المسؤولون عن الموقع بالاواني الفخارية ولماذا لم يوقفوا اعمال الانشاءات بعد ظهور الاثار مباشرة.