تراوح رد فعل اطراف قضية دارفور حيال توصيات لجنة حكماء أفريقيا بين الفتور والرفض، فالحكومة رغم أن نائب الرئيس على عثمان محمد طه أعلن ترحيبه رسميا بالتوصيات في خطابه أمام قمة مجلس الأمن والسلم الإفريقي الذي انعقد الاسبوع الماضي بالعاصمة النيجيرية أبوجا الا أن طه عاد وأبدى في ذات المنبر تحفظ الخرطوم على أهم نقاطها وهي تلك الخاصة بتشكيل محكمة مختلطة لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم في دارفور وقال إنها بحاجة لمزيد من المناقشات وتقتضي تعريفا دقيقا وشافيا لمدى توافق مبدأ تكوينها مع الدستور ومع مبدأ استقلال القضاء مع التأمين على أن مخرجات التقرير توصيات وليست قرارات ملزمة. كما أعلنت حركة العدل والمساواة موقفا مشابها لموقف الخرطوم عندما وصفت الاقتراح بانه غير عملي. ورفضت حركة تحرير السودان القيادة الثورية رفضا قاطعا أية تسوية تعيق العدالة الجنائية الدولية في دارفور أو تلتف عليها من لجنة حكماء أفريقيا حسب قولها. وقال المتحدث الرسمي باسمها محجوب حسين في تصريحات منشورة إن حركته لن تقبل محاكم هجينة أو مختلطة أو سودانية أو مستوردة و ذهب محجوب إلى أبعد من ذلك واتهم لجنة الحكماء بأنها بدأت تعمل لإنقاذ البشير عوضا عن إنقاذ شعب دارفور كما باتت تمثل أحد مؤسسات النظام الخارجية. بينما احتفت القوى السياسية المعارضة بالتوصيات و دفعت بمذكرة لقمة مجلس السلم والأمن الإفريقي وأعلنت فيها تأييدها واعتبرت المذكرة أن (مجلس السلم والأمن الإفريقي أسدى خدمة جليلة إلى السودان) ويتفق مراقبون مع ماذهبت إليه مذكرة القوى المعارضة ويقولون إن تقرير وتوصيات لجنة الحكماء فرصة للخرطوم تتيح لها تحقيق الكثير من المكاسب أولها الخروج من مطب الجنائية الدولية التي من المتوقع أن يعود ملفه إلى السطح خلال أقل من شهرين و انهاء حالة المواجهة التي لا زالت في بداياتها حتى الآن مع المجتمع الدولي وإعادة ملف المحاكمات من اروقة المؤسسات الدولية إلى أفريقيا فميثاق روما الأساسي نص على أن دور المحكمة مكمل لدور القضاء الوطني، وإذا ما أنشئت المحاكم المختلطة بصورة جادة و مقنعة للعالم وأطلعت بملف تحقيق العدالة فإن ذلك من شأنه أن يسحب البساط من تحت أقدام الجنائية الدولية ويضعف من موقف الداعين لها بينما العكس تماما هو ماسيترتب على الرفض و التقرير نفسه أبقى خيار الجنائية الدولية قائما وان قال إنه الملجأ الاخير. الحكومة بالتأكيد تدرك ذلك لهذا تراجعت عن رفضها الصريح المطلق للمحاكم المختلطة المعلن مسبقا و تركت الباب مواربا بالتحفظ ثانيا رفض التوصيات من شأنه أن يحرج الاتحاد الافريقي ويؤثر سلبا على موقفه الموحد الداعم للخرطوم منذ خرجت أزمة دارفور كقضية ثابتة في محافل المجتمع الدولي. رابعا، يقدم التقرير معالجة شاملة لأزمة مستفحلة وتتوافق المعالجة في الكثير من جزئياتها مع رؤية الحكومة في نقاط كثيرة منها التأمين على أن يكون السلاح في النهاية بيد القوات الحكومية فقط و التعامل مع الحركات الرافضة للسلام باعتبارها منظمات ارهابية وو قف شامل لاطلاق النار وقبل ذلك كان التشخيص الذي قدمته لجنة الحكماء قريبا لما كانت تقول به الحكومة الامر الذي وجد ارتياحا كبيرا من الخرطوم وعبر عنها نائب الرئيس على عثمان حين قال (تشخيص التقرير لأزمة دارفور يتجاوز النظرات السطحية والتوصيفات المغرضة للمشكلة) ثالثا الخرطوم ظلت ومنذ أن بدأ الحديث عن جرائم حرب في دارفور تستوجب المحاسبة تتهم القوى المؤثرة في المجتمع الدولي بأنها تستخدم الجنائية الدولية لتحقيق أجندتها في السودان و بنسج المؤامرات ضد حكومته و تعتبر تفاقم أزمة دارفور نفسها و تحويل ملف جرائم الصراع فيها إلى الجنايات الدولية جزءا من تلك المؤامرات واسترداد ملف المحاكمات أفريقيا يبعده تماما من ما تتخوف منه الحكومة السودانية سواء كان ما يثير مخاوفها حقيقة أم متوهمة. غير أن مراقبين يشككون في قدرة الخرطوم على التعامل مع ما يعتبرونه فرصة مواتية ويشيرون إلى فرص أخرى أضاعتها بسبب عدم استعدادها لدفع الثمن الذي لابد من دفعه و يمثلون بتشكيل لجنة تحقيق برئاسة مولانا دفع الله ا لحاج يوسف، و إنشاء محاكم خاصة بأحداث دارفور و قصور قانون 2004 الخاص بها والذي لم يحتوِ على التفاصيل الكافية بل افتقر حتى لأشياء مبدئية كتحديد كيفية حماية الشهود ثم التعامل مع القضية بنوع من الاستهتار، وافقدتها المعايير الدولية و بالتالي فقدت ثقة المجتمع الدولي وفقا للدكتور محمد عبد السلام استاذ القانون بجامعة الخرطوم الذي قال أيضا في ندوة بمنبر الصحافة في وقت سابق أن الخرطوم أضاعت فرصا أخرى كاتفاقية أبوحا التي جاء في بنودها الكثير من المعالجات لذات القضية كتعويض المتضررين الذي كانت سيساعد كثيرا في استعادة ملف القضية إلى الداخل إذا ما تعاملت معها الحكومة بجدية. لكن القبول بفكرة المحاكم المقترحة أيضا له ثمنه والمحاكم المختلطة وفقاً لبعض التجارب مثل تجربة سيراليون يتطلب نظاماً مختلطاً في النيابة والقضاة والمحامين و كما جاء في توصيات تقرير الخبراء فإن الحكومة السودانية إذا قبلت بالمحاكم المقترحة يجب عليها أن تتخذ خطوات فورية توطئة لانشاء محكمة جنائية مختلطة تمارس السلطة الابتدائية والاستئنافية على الأفراد الذين يتحملون مسؤولية محددة عن أخطر الجرائم التي ارتكبت أثناء الصراع في دارفور و تتمثل تلك الخطوات في إدخال تشريع يسمح قانونياً للمؤهلين من غير القوميين بالخدمة بالجهاز القضائي السوداني الذي يمنع قانونه عمل غير السودانيين في القضاء عكس دستور السودان الذي ليس فيه واضعوا التقرير ما يمنع غير السودانيين من العمل في الجهاز القضائي السوداني ولذا فهو ليس في حاجة للتعديل حسب ما جاء في نص التقرير وهذا من الاسباب التي تدفع البعض إلى التشكيك في قبول السودان بهذه الجزئية من التقرير ففكرة المحاكم المختلطة وهذه هي النقطة التي تثير تحفظ الخرطوم يعد تشكيكا في النظام القضائي السوداني وفي قدرته على تحقيق العدالة والقبول بها يعني الاقرار بذلك فضلا عن أسباب أخرى وهي أولا هذه المحاكم بالرغم من أنها ستعمل بشكل مستقل ولا علاقة لها بما توصلت إليه المحكمة الجنائية الدولية إلا أنها يمكن تطال مسئولين كبار في نظام الخرطوم وإذا ما استأنفت هذه المحاكم عملها فإن الخرطوم لن تستطيع منعها من محاكمة أحد مهما كان خاصة وأنها ظلت تتحدث عن أن العدالة مبدأ ثابت تلتزم الحكومة بتحقيقه. ثانيا التقرير وتوصياته لم يقطع في الكثير من التفاصيل وتركها للتشاور و بين الاطراف ذات الصلة وهذا مدخل للالتفاف على التقرير وما جاء به من توصيات ويرجح غير المتفائلين بقبول الحكومة به أن تستغل الاخيرة الغموض الذي يكتنف التفاصيل في الالتفاف عليه خاصة وأنها ثبتت أمام قمة الامن والسلم الافريقي أن جملة ما قدمه حكماء أفريقيا مجرد توصيات وليس قرارات بمعنى أنها غير ملزمة للأطراف. وتبدو الخرطوم في موقف صعب إذ لا بد من دفع ثمن ما لطي ملف محاسبة مرتكبي الانتهاكات في دارفور فهل تستجير برمضاء المختلطة أم تراهن على الوقت وتنتظر عواقب نار الجنائية.