وسط مشاعر اختلطت فيها الدموع بالزغاريد غادر الاثنين الماضي (3) آلاف مواطن جنوبي معسكر ميناء كوستي على متن البواخر بعد( 6) اعوام من البقاء في المعسكر , في اطار برنامج العودة الطوعية الذي تنفذه منظمة الهجرة الدولية , بدأت مراسم الوداع في مرسى البواخر وسط حضور كبير من منظمات المجتمع المدني منذ وقت مبكر من صباح الاثنين امتدت حتى الرابعة بعد الظهر لتطلق بعدها الصنادل صافرتها استعدادا للانطلاق صوب دولة الجنوب . (الرأي العام ) رصدت الاجواء الاحتفائية ومشاهد الدموع التي انهمرت في لحظة الرحيل . الشهد والدموع في الساعات الأولى من صباح يوم الرحيل كان المكان يضج بالمغادرين ينقلون امتعتهم على عجل خشية ألا يجدوا مكانا في صندل محدود السعة , غير ان الرحلة الاخيرة كانت اكثر تنظيما من سابقاتها وذلك للاشراف المباشر من منظمة الهجرة الدولية والمنظمات الاخرى, بالاضافة الى لوجستيك السودانية التي بذلت جهودا كبيرة في ازاحة العقبات التي واجهت الرحلات السابقة وتمثلت في زيادة امتعة المغادرين . الاجواء بالمعسكر كانت تغلب عليها الفرحة والوجوه تكتسي بالابتسامات ويتبادل المغادرون التحايا بحيوية . ويترقبون ساعات الصفر بلهفة . وآخرون يعدون مكان الاحتفال بنشاط وينتشر موظفو الهجرة الدولية والمنظمات الأخرى بأزيائهم المتميزة يتبادلون القفشات, وحديث ذا شجون مع سكان المعسكر الذين ألفوهم بحكم عملهم الدائم بالمعسكر منذ توقيع اتفاقية السلام وبرنامج العودة الطوعية الذي بدأ منذ (6) اعوام .حوالي العاشرة والنصف بدأت مراسم حفل الوداع وسط توافد مجموعات كبيرة من ابناء الجنوب (المودعين ) واعداد كبيرة من الشماليين وانطلقت موسيقى ترانيم الصلاة التي تحث على التوكل على الله في رحلة عودتهم وعدم الخوف من المستقبل في الدولة الجديدة . وتابلوهات من رقصات القبائل الجنوبية في حلقة كبيرة , واندفع الشماليون الى حلقة الرقص يشاركون اخوانهم الجنوبيين الرقصة الاخيرة في ارض الشمال . لتأتي بعدها لحظات الدموع التي جرت على خدود الرجال والشباب والنساء جنوبيين وشماليين خاصة عندما شدا الفنان طارق كوستي برائعة عثمان الشفيع : (ارض الخير افريقيا مكاني..زمن النور والعزة زماني ...فيها جدودي...جباهم عالية.... جباهم عالية..جباهم عااالية...مواكب ما بتتراجع تاني ...اقيف قدامها و اقول للدنيا انا سوداني...انا افريقي انا سوداني) وتبدلت مشاعر الفرح الطاغية الى حزن امتد الى حدقات الحاضرين من موظفي المنظمات والوفد الصحفي مشاعر متناقضة المواطنة الجنوبية ميري سايمون تحدثت الينا وهي تكفكف الدموع بطرف ثوبها وقالت: لم اكن اتوقع فراق الشمال بالرغم من انني كنت مهيأة لذلك منذ اعلان دولة الجنوب, وعبرت ميري عن خوفها من المستقبل خاصة انها ذاهبة الى ارض لا تعرف عنها شيئا, وقالت ولدت بالشمال وتزوجت هنا وانجبت اطفالي ولم ازر الجنوب قط ولا ادري كيف سيكون مصيرنا هناك . قلت لها : ألم تكوني تعلمين بأنك ستغادرين الشمال عندما اخترت الانفصال...؟ ردت بسخط لم اصوت للانفصال بل لم اصوت ابدا لا للوحدة او الانفصال . وعكس ميري أبدى احد الجنوبيين كان يقف بالقرب منا رأيا مغايرا وداعبني : انتم الشماليون ايضا كنتم تريدون الانفصال, وقال انا لست حزينا بل في قمة السعادة لانني ذاهب الى وطني وارض اجدادي , واردف: انا اقيم في الشمال منذ الخمسينيات وطيلة هذه المدة لم اشعر بانني انتمي اليه . وودعني قائلا : من الافضل ان نعيش جيران في دولتين بدلا من الوحدة وتبعاتها من صراعات تضر بالشعبين. طفل جنوبي بزي الجلابة يبدو ان ام احد الاطفال الجنوبيين لم يبلغ العام من عمره ارادت توصيل رسالة مفادها: (ما زال الأصل السودان ) عندما جاءت بطفلها يرتدي الزي السوداني (عراقي وسروال وصديري ومركوب ) ? الزي الذي يمثل الاصل السوداني في الوجدان وصيغت في تأصيله الأغاني , والطفل بزيه اعاد الى الذاكرة رائعة الحردلو الذي يتغنى بها وردي: (يا بلدي يا حبوب ,, ابو جلابية وتوب,, سروال ومركوب,,, وجبة وصديري) ... بكاء حتى الإغماء أصيبت امرأتان بحالة إغماء نتيجة البكاء الهستيري الذي استشرى لحظة تحرك المغادرين نحو الباخرة , تم اسعافهن بسرعة وقالت مريم جوك : هؤلاء لم يتحملوا فكرة فراق بقية اهلهم الذين سيبقون هنا في المعسكر الى حين نقلهم, واردفت : وقد يمتد الى سنوات . فيما علق شول قرنق طالب بجامعة اعالي النيل على الجميع ان يقتنعوا بالواقع وليس امامنا سوى الخضوع للواقع ولن يتغير شئ اذا بكينا او اصبنا بالاغماء, بينما توقع كنتو سفريانو العودة مرة اخرى الى الشمال فلذا لن يتأثر او لم يشعر بان اللحظات ليست الاخيرة في السودان , وقال : قد اعود مرة اخرى عناق الشمال والجنوب وبعد انتهاء الحفل خاطب المنادي المسافرين للتوجه الى البواخر . وكانت اللحظة التي جسدت الحقيقة التي حاول البعض تزييفها كما قال احد السلاطين البعض يرى بان الشعب الجنوبي لا يشبه الشمال وما نراه الآن يقطع رؤية كل المختلفين في شكل العلاقة بين الشمال والجنوب) .. وبالفعل كان المشهد يسرد حقيقة العلاقة حيث ارتمى الجنوبيين في احضان الشماليين في عناق طويل وبكاء مرير ... وراحت الزميلة ب(اخبار اليوم) نجاة صالح شرف الدين والزميلة زليخة ب(صحيفة السودان فيشن) في نوبة بكاء . وحاول الموظفون حث المسافرين على الاسراع الى اخذ امكانهم في الصندل غير ان احد الشباب رفض الصعود الى الباخرة . ولكن تدخل البعض واثنوا الشاب عن قراره . وفي الجانب الآخر راح المودعون من ابناء الجنوب في نوبة بكاء مع المسافرين, وقال احد الحضور ان المعسكر خلق علاقات اجتماعية قوية بين ابناء الجنوب من مختلف القبائل, واضاف ان المعسكر في السنة الماضية شهد (15) زيجة وعددا كبيرا من المواليد . ورغم مغادرة هذا العدد الكبير الا ان هناك عددا كبيرا من ابناء الجنوب بمعسكر ميناء كوستي النهري ومن المتوقع اعادتهم بنهاية هذا العام . وقال صلاح عثمان ضابط الاتصال بمنظمة الهجرة الدولية ان العدد الذي تمت اعادته في هذه الرحلة يبلغ (3) آلاف جنوبي بعد اكتمال كافة العمليات اللوجستية والاجراءات والكشف الطبي للتأكد من عدم إصابتهم بإمراض تمنعهم من السفر, وزاد ان العدد المستهدف الى نهاية هذا العام (6) آلاف مواطن, واضاف صلاح ان المنظمة بدأت في إجراءات الرحلة الثانية قبل نهاية هذا العام واذا قدر لنا اكمالها نكون قد انجزنا في اعادة (20) الف مواطن جنوبي من الشمال الى الجنوب بتكلفة (6) ملايين دولار . وتوقع صلاح تأثير الأزمة المالية العالمية في اكمال عملية اعادة الجنوبيين الى دولتهم لان الممولين مانحون من الدولة المعرضة للازمة. ومن هذا المنطلق ناشد صلاح حكومة الجنوب بدعم العملية . واكد صلاح عدم وجود مخاطر امنية على العائدين بالنهر باعتباره آمن الوسائل . وعن الدعم قال ان التمويل من المانحين وتم تأهيل الصنادل النهرية ب(30) الف دولار بغرض الترحيل وفق المعايير الدولية .