البرلومة كانت تقف في نهاية شارع المين تحتسي مشروباً بارداً في نهاية يوم صيفي، ومعها مجموعة من المنعمات أسوة بكل رواد شارع المين، ولا تدري أن الأقدار ستجعلها بعد لحظات في حالة ذهول عندما اندفع شاب يمشي بخطوات سريعة في صحن شارع المين، ويبدو أغبش وضخم الجثة بعيون غاضبة وصوت مجلجل كأنه سيقتلها، وهو ينادي بصوت مرتفع «يا ود ورنيش على الكورنيش»، فاطلقت البرلومة صرخة مدوية وركضت باتجاه كلية الآداب وسط ضحكات السناير الساخرة، لأن البرلومة حديثة العهد لم تعرف ان الشاب كادر نشط في الحزب الناصري يدعو لركن نقاش على طريقة الكولن او بالبلدي «شايت كولن»! وثقافة الكولن في الجامعات السودانية ارتبطت بالسياسة، فعندما تسمع أصواتاً مرتفعة تنادي بصوت مرتفع ترهف السمع لتعرف نوع النشيد الحماسي الذي تتبعه صفقة مرتبة تعلن أن أحد الأحزاب السياسية سيقيم ركن نقاشه الدوري أو لحالة طارئة. ولكن هذا لا يمنع أن يكون الكولن أيضاً يستخدم في المنتديات الثقافية أيضاً، لتحشد الجمعيات الأدبية جمهورها الذي كان يقارع جماهير السياسة. والكادر الذي يصدح ب «الكولن» له مواصفات خاصة أهمها الصوت المجلل والكاريزما الجاذبة، فهو بمثابة مسؤول العلاقات العامة في الحزب، فلا بد أن يكون جاذباً بشكل خاص وله حضور حتى ينافس، لأنه في كثير من الأحيان يتصادف وجود ركني نقاش لحزبين مختلفين، فتكون معركة اجتذاب الجمهور فاصلة دائماً، لأن معظم الطلاب لا يميلون للجلوس ساعتين لسماع كادر خطابي يرغى ويزبد، فتجدهم يقفون للحظة ثم ينزوون بعيداً، ولكن الكادر الخطابي يجذب بقوة الجماهير التي تكون مبعثرة هنا وهناك قبل أن تستقر في النشاط.. ولكل حزب أناشيد «كولن» خاصة تجعلك تعرف أي حزب ينادي لركن، خاصة أن كوادر ال «كولن» تكون معروفة، لأن الأنظار تصوب نحوها في كل مرة تصيح فيها، وهي تتجول في أرجاء الجامعة وتقتحم الكافتريات، فتوقف الحديث طوال فترة وجودها في الجامعة، وغالبا كادر ال «كولن» هو المسؤول عن تعليق الملصقات أيضاً، وبالنسبة لأناشيد ال «كولن» الحماسية فقد تختلفت من حزب لآخر أسوة بالفكرة التي يسوق لها، وبعض الكوادر تؤلف أشعارها الخاصة، فمثلاً كادر «حق» الشهير جداً طالب الطب كانت له أغنية ذائعة الصيت، رغم أنه لم يكن يملك صوتاً مجلجلاً، ولكن كلمات القصيدة تجعل السامع يتمنى لو يسمعها. ومقطعها الاول يقول: «دعموشه دعموشه شعراتا منكوشه تاكل من الكوشه»، فكل من يسمع «دعموشه» يعرف أن «حق» سيقيم ركن نقاش. وبالنسبة للجبهة الديمقراطية فقد كانت هناك أغنيات لشعراء بعينهم تردد تسويقاً لركن نقاش لهم، مثل «أن نبر البرتقالة.. أن نموت فداء الرحيق» و «حاجة آمنه اتصبري» وغيرها كانت علامة مميزة لهم. وبالنسبة لكوادر الحركة الاسلامية فقد كانت الأناشيد الجهادية عنواناً لهم غنياً عن التعريف، وبالنسبة للحزب الناصري فقد كانت قصائد الهوية كافية للتعريف مثل «سجل أنا عربي» وأغنية الطبيب واصل الهادي وهو من قدامى الناصريين «حين أنادى عزة»، والأحزاب العقائدية مثل الأمة والاتحادي أيضاً كانت لها قصائدها، أما بالنسبة لأولاد قرنق كما كان يطلق عليهم أو «الانفصاليون»، فقد كان لهم «كولن» واحد «هاي دريم نيو سودان» الذي كان واضحاً أنه غطاء للانفصال تحت دعوى الحلم بسودان جديد. وكوادر ال «كولن» لتكون جاذبة لا بد أن تكون بها أصوات نسائية تتجول وتصدح ب «كولن» معين، فينظر إليها الطلاب بإعجاب كبير. وأذكر أن كادر الجبهة الديمقراطية وقفت وصاحت «أنثى ولا دستة رجال»، وصادف ذلك مرور مجموعة من البرلومات فتقافزن فرحاً، ووقفن يصفقن حتى انتهى ركن النقاش. والحزب الناصري كان به كادر نسائي خطيرة بلورت كثيراً من علاقاتها حتى ترفعت لكادر خطابي أيضاً. وكل من تخرج في جامعة له ذكريات مع ال «كولن» وما يتبعه من أحداث ومناوشات وشغب يستدعي تدخل الشرطة، لكنه يظل يحمل عبقاً معيناً نحمله في ذاكرتنا إلى الأبد.