منذ عام 1962، لم يَزرْ رئيسٌ مصريّ جنوبَ السودان، ولكن الرئيس حسنى مبارك فعلَها لمدّة ساعات، كانت كفيلة ببدء مزاج جديد في علاقات مصر بالسودان، جنوبه وشماله معا. فمظاهر الحفاوة البالغة، رسميا وشعبيا، التي استُقبِل بها مبارك، لاسيما في جوبا، حاضرة الجنوب الكبرى، كانت أكثر من مجرّد اعتراف بدَور مصري مطلوب في الشأن السوداني عامة، والشأن الجنوبي خاصة. مفهومٌ طبعاً أنّ سنوات الحرب الأهلية في الجنوب، لم تكُن تُمثل فُرصة لأية زيارة لمسؤولين مصريين، ولكن بعد انتهاء الحرب وقيام السلام القلِق، وفقا لاتفاقية نيفاشا 2005، كان السؤال لماذا لم يأت مسؤول مصري كبير، وتحديدا الرئيس مبارك إلى أرض الجنوب؟ ولماذا كل هذا التأخير، رغم قيام مسؤولين جنوبيين كِبار بزيارة القاهرة مرّات عديدة في السنوات الخمس الماضية، ولقاء كثير منهم مع مبارك؟ أغلب هذه الأسئلة ارتبط أساسا بأن الزيارة لم يُعلن عنها من قبل، إذ جاءت مفاجِئة للجميع، ومع ذلك، فهي تلغي حقيقة أن مبارك زار بالفعل السودان في عامي 2003 و2006. كانت الزيارة الأولى، بعد توقيع اتفاق ماشاكوس الإطاري، الذي تضمّن قَبول القِوى السودانية جميعا، مبدأ حقّ تقرير المصير كجُزء من حِزمة مبادئ لإنهاء الحرب الأهلية، وهو ما كانت تُعارضه مصر وتُصرّ على أولوية إنهاء الحرب من بوابَتيْ وِحدة السودان وحقوق المواطنة المُتساوية للجميع. وقد بدت الزيارة في حينها، تعبيرا عن تجاوُز مصر لصَدمة اتِّفاق ماشاكوس. وفي الزيارة الثانية عام 2006، والتي جاءت بعد عدم مُشاركة مبارك في القمّتين، العربية والإفريقية، اللّتين عُقِدتا في الخرطوم مطلع العام، أراد مبارك التّأكيد على أن السودان بالنسبة لمصر، تَوأم سياسي واستراتيجي ومجتمعي، وأن ما يجمع بينهما، هو صيغة فريدة تجمع التاريخ والجغرافيا والمصالح والأمن، يستحيل التضحية بها أو التخلي عنها. هكذا فعلها مبارك، ليس ليقدِّم تفسيرا لتأخّر الزيارة إلى الجنوب، بل ليؤكد ثوابِت السياسة المصرية تُجاه السودان وأزماته المختلفة، وهي الثوابت التي تجمع بين ثلاثة معا. أولها، أن مصر لا تفرّق بين شمال السودان أو جنوبه، وإنما تنظُر إلى هذا البلد من منظور أنه بلد نموذج يجمع بين العروبة والإفريقانية، وأن هذا النموذج لابد من الحِفاظ عليه كبلد واحد متّحد، يقوده أبنائه وِفقا للاتفاقات التي وقّعوها بأنفسهم لإنهاء الحروب وإقامة سلام ونظام سياسي، يجمَع كل السودانيين معا. ثانيها، واستنادا إلى الثابت الأول، فإن مصر ترى أنه لابد من تضافُر الجهود لكي يكون خِيار الوحدة جاذِبا لأبناء الجنوب، حين الاستفتاء على حقّ تقرير المصير المقرر في عام 2011. هذه الجاذبية، لن تكون إلا من خلال رابطة عضوية بين إقامة السلام من جهة، والتنمية من جهة أخرى، مع التزام كامل بحلّ أية إشكاليات عملية، خاصة باتفاقيات نيفاشا، من خلال الحوار والآليات الواردة في الاتفاق، مع استبعاد الخيارات العسكرية تماما، على أن تُولي الحكومة المركزية عناية أكبر بتنمية الجنوب. ثالثها، أن مصر مستعدّة لتقديم العَون وِفقا لقُدراتها، لمساعدة السودان على تخطّي العقبات والتحدّيات التي يواجهها، سواء بالنسبة لدارفور أو بالنِّسبة لمُواجهة الاتهامات الموجّهة إلى الرئيس البشير. غير أن هذا العون المصري لا ينفي حقيقة أن واجب السودانيين أولا، هو إيجاد الحلول المناسبة لمشكلاتهم، دون الاستعانة بضغوط من هنا أو من هناك. في ضوء هذه الثوابت، يمكن فهم ما ركّز عليه الرئيس مبارك في مباحثاته مع الرئيس البشير في الخرطوم، ونائبه سليفاكير رئيس حكومة الجنوب في جوبا. فمع البشير، وخلال لقاء منفرد طال ثلاثين دقيقة، كانت هناك مصارحة وتأكيد على أن مصر، وبالاتفاق والتنسيق مع دول عربية وإفريقية عديدة تسعى إلى تعليق رسمي عبر المنظمة الدولية لمذكرة المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أوكامبو، وهو ما يُوفر مساحة من الزّمن، يجب على الحكومة السودانية أن تستغلها جيدا ودون إبطاء في إنهاء أزمة دارفور، سلميا وبصورة شاملة، وأنه إذا ما تقاعَست الخرطوم في ذلك أو ظنّت أنه يُمكنها الاستمرار في المناورات ، فهذا سيشكِّل خطرا شديدا على السودان ككُل، . تضمّنت المصارحة أيضا، أن مصر تعتقد أن المعلومات المُتداولة عن الفتور والبرودة في علاقات شريكَيْ الحُكم، ليست في محلها ويمكنها أن تؤثِّر على جاذبية خيار الوحدة، الذي تعتبره مصر هدفا إستراتيجيا يتطلّب جهودا كبيرة وتضحِيات أكبر، ولكنها أي التضحيات ستكون ثمَنا مُناسِبا للحفاظ على السودان وعدم دخوله في دوامة الانفصال. ولذلك، فإن مصر تؤيِّد أن تكون هناك مبادرة واحدة، عربية إفريقية، هي تلك التي تعمل عليها قطَر بتفويض عربي، وأن يكون هناك جُهد سوداني محلي، مثل مبادرة أهل السودان، التي يُفترض أن تكون آلية عمل سريعة ونشطة، وتحمل دعم الشعب السوداني لخطوات حكومته ومشاركته في إحلال السلام للإقليم المنكوب. بمعنى آخر، أن مصر ترى أنه يجب التركيز على مبادرة واحدة وأن تسندها جهود محلية مخلِصة لإنهاء الأزمة، دون إبطاء. في جوبا، كانت أيضا مصارحة مع كِير، الذي انفرد في لقاء مع مبارك طال 20 دقيقة بعد الاجتماع الموسّع مع عدد من أعضاء حكومة الجنوب، الذين كانوا جميعا في استقبال الرئيس المصري في مطار جوبا. ركّزت المصارحة، على أن مصر لن تتقاعَس في مساعدة، لا الشمال ولا الجنوب، وأنها تشعر بقلق ممّا نُشِر أخيرا حول جهود تسليح جيش الحركة الشعبية بأسلحة ثقيلة، وهو الجيش الذي يصل تِعداده إلى 170 ألف جندي، وأن تفضيلها الأول والأخير، هو وحدة السودان وسلامته وهويته التعدّدية المُتسامحة. لذا، ثمّة شعور بالرِّضا لدى المرافقين لمبارك، حين أكّد سيلفا كير في تصريحاته بعد اللقاء الموسّع، أن الخيار الأول للجنوبيين، هو الوحدة وليس الانفصال. كان لافتا للنظر ذلك التقدير الكبير من حكومة الجنوب لكل الدّعم التنموي الذي تقدمه مصر للجنوب، مع دعوة أن تقود مصر جهدا عربيا أو تدعو شقيقاتها العربيات أن يقدِّموا أيضا دعما تنمويا يحتاجه الجنوبيون بشدّة، ليُعوِّضهم سنوات الحرب وآلامها، ويؤكِّد لهم أن خيار السلام والوحدة هو الخيار الأفضل. مصر من جانبها، ووفقا لقُدراتها، أنشأت مشفى حديثا في جوبا، وهناك مشروع لإنشاء ثلاث مستشفيات أخرى في واو وملكال، بولاية بحر الغزال وجوبا بتكلفة 200 مليون جنيه. ويجري إنشاء مدرسة مصرية في جوبا متعدّدة الأغراض، وتقدّم مصر 300 مِنحة تعليمية لأبناء الجنوب، مُقسّمة على الولايات العشر، مع استمرار لعدد 100 منحة تعليمية أخرى سنويا، كما أنارت ثلاث مدن في الجنوب بنَفقة مصرية خالصة. وستُقيم مصر محطة كهرباء في منطقة ابيي، وِفقا لما أعلنه مبارك أثناء الزيارة، كما ستُنشِئ فرعا لجامعة الإسكندرية، بعد إتمام إجراءات توفير الأرض من قِبل حكومة الجنوب. وهناك مزارع استِرشادية مصرية واتفاق على تيسير عملية إعادة استخدام قناة جونجلى، التي تضرّرت إبّان الحرب الأهلية. هذا الجهد الحكومي المصري، وإن كان مقدّرا، لكنه يظل بحاجة إلى المزيد من جانب الحكومة ومن غيرها، لاسيما القطاع الخاص المصري، الذي يبدو أقل حماسا للتّركيز قليلا على دعم تواجده في الجنوب السوداني، رغم الفرص الكبيرة والمتوافرة هناك. *عن سويس انفو