أستاذ قصة.. ليست قصة.. عن الاسترخاء والأنس تفتننا منذ الستينات.. وفيها صديقان مضطجعان في حديقة بعد المغيب.. أحدهما يحدِّث نفسه والآخر يحدِّث نفسه.. الأول .. وهو عامل نسيج.. يحدِّث نفسه.. أنك نسجت من القماش ما يغطي أرض مصر طولها.. وقميصك ممزوع وتعجز عن شراء قميص للولد.. والآخر يحدِّث نفسه عما أصلح من عربات الناس بينما يمشي عمره على ساقيه. وهذا يقرر أن يقول لصاحبه وهذا يقرر.. آخر مشهد كان هو .. كانا يمشيان وأحدهما يتكلم.. والآخر ينصت باهتمام كانا صديقين.. أستاذ عمرنا كله نبحث عمَّن يستمع لنا مثلها.. ونحدثك عن الستينيات وعن الإخوان.. لنفهم ما يحدث الآن وكل أحد كان يجري أيامها.. الستينيات.. ليصبح جكسا أو الكابلي أو الحسين الحسن. دون أن يشعر أحد أن الرقص ما يصنعه هو الشبع.. وأن الشبع تصنعه المصانع.. وأن المصانع تصنعها السياسة.. وأن غابة السياسة العالمية كانت تكشر أنياباً. هي ما نراه الآن. وإبراهيم عوض صبي الحداد كان يبرز وله تسريحة شعر يقلدها الصبية.. وعبد العزيز محمد داود عامل السكة حديد كان يبرز. وكيشو يقص زيارته تحت الليل لبيت طيني في زاوية من أم درمان والباب الصفيح يفتحه صبي في السادسة عشرة يتعثر في جلباب كان واضحاً أنه ليس جلبابه وفي حرج شديد يدعوهم إلى الجلوس على عنقريب قديم.. كان الصبي هو جكسا. وكان الحزب الشيوعي يصنع من العنقريب والباب الحديد أنشودة الطبقة العاملة.. ومن ليس شيوعياً كان ينصت مسحوراً في عرس الشيوعيين كان الشعر لهم والغناء والكتابات والزهو.. زهو من يعرف أمام من لا يعرف. والصراع النابح بين الشيوعيين خلف الأبواب كان يصنع الجنون والانتحار ويصنع الكتابات والفضائح وأغرب الحكايات. وصراع صلاح وشيبون وأنانسي وأحمد والمكي والطاهر وصف طويل.. كان صراعاً يجعل بعضهم يتدلى من سقف الحمام.. وفي الفجر أهل الدامر يجدون في المسجد أحدهم وقد حلق رأسه وارتدى الدمورية.. واغتساله من ماضيه يبلغ درجة أنه وهو المثقف القديم يسلم أصبعه لأولاد الخلوة يغرسونه في الرمال يعلمونه كيف يكتب ألف باء تاء اللهم توبة مثلها. وأحد أشهر الشعراء الشيوعيين من السودانيين في موسكو ينظر من نافذة الطابق السابع إلى ليل موسكو والطريق الخالي تحته وإلى رذاذ الثلج ورذاذ روحه المهتاجة ثم يضع ساقاً خارج النافذة .. ويقفز. ونحدث العام الأسبق أن البحث عن إصلاح الخراب هو ما يقود كل الناس .. الإخوان والشيوعيين والنميري... و... و... والغرب كان هناك يسقي هؤلاء وهؤلاء من خمر الغولة الممتعة التي تصيب أهلها بالكساح. ...و... وكل إشارة من هذه تحتاج إلى شرح طويل ومن حديث الستينيات - ولا أحد يفهم الستينيات ما لم يفهم حديثها هذا كانت موجات الأدب. اللامعقول.. في المسرح.. وما وراء العقل في الرسم ولوحة واحدة لسلفادور دالي ثمنها يشبع الخرطوم لعامين.. والبلوجيز.. والبيتلز.. ومدهش أن غناءهم كان سكرًا.. سكراً يستمع إليه.. من لا يعرف الإنجليزية ويقفز من فوق سور السندباد إلى عوامل أخرى. والأدب كان يكشف الروح.. «دوريان جراي» رواية تشتهر لنصف قرن لأنها بيعة بين شاب جميل جداً وبين الشيطان.. يشتري المتعة والبقاء بعبادة الشيطان.. الرواية تكشف صورة الغرب كله». والروح هذه هناك والسذاجة هذه هنا في السودان.. وحتى الشيوعية التي كان ضلالها دون توحش.. كلها كانت هي الروح السودانية.. وكانت تبتلع العالم. ولوممبا يتتبع الناس نضاله وكأنه من حي العرب أو المسالمة.. والحسين الحسن يغني لجومو كنياتا.. وسوكارنو وبن بيلا.... و«بولين» زوجة لوممبا لا تعلم أن نساء الخرطوم يُقمن مأتماً حقيقياً على لوممبا. لكن العالم كان شيئاً آخر والأيام ذاتها ما يجري فيها يكشفه كتاب «من يدفع للزمار» الذي مع سيل من الكتابات الأخرى يقص كيف أن المخابرات الأمريكية كانت تشتري «كل» الإعلاميين والكتاب والشعراء في العالم العربي.. أقلام يومئذ تصنع ما يجري بعد ذلك حتى اليوم. وصاحب كتاب «القاتل الاقتصادي» يقص بين كتابات كثيرة أخرى حكاية مضغ الاقتصاد العالمي.. الآن.. والإسلاميون يشعرون بهذا في السودان. وكانت كتابات الإسلاميين في مصر هي أول من «ينقر» المائدة شعوراً بخطر.. يتسلل.. ودون وجه معروف. ومدهش أن كتابات عن تدمير مصر اجتماعياً تصدر في ما بعد/ تكشف أن موجة الميني جيب لم تكن مصادفة.. ولا الثلاثي المرح.. ولا أفلام مثل أبي فوق الشجرة وفيه ثلاثون قبلة ولا... ولا... ومدهش أن الكتابات بعد ذلك وكأنها «تميِّز الضرب» وتشرح مثل ما نجده من مصر الآن عنوانها كان هو «لمصر.. لا لعبد الناصر».. كان هذا بعد النكسة. وبعد النكسة كان الحكيم يكتب رسالة صغيرة اسمها «عودة الوعي» تعني عودة الوعي لمصر. والحكيم يميز فيها بدقة بين مصر وبين عبد الناصر.. وكل منهما كان «عالمًا» كاملاً.. وليس فرداً. مثلها مصر الآن التي تشتم السودان من هنا وتثني على السودان من هنا هي «عوالم» كل منها صادق يعني ما يقول أستاذ وما لم تعرف «عوالم» السودان.. والستينيات... وعوالم مصر... وعوالم الصراع في المنطقة بكاملها وألف شيء آخر... وكلها أشياء من لا يحملها بين قوسين يعجز عن فهم الأمر. يستحيل عليك أن تفهم. أستاذ : نريد أن نحدثك حديث الصديقين في القصة أعلاه ونعجز. وشيء عندنا يجزم أنه لا أحد يفهم شيئاً مما يجري اليوم إلا بعد أن يكرع الستينيات وما كان فيها في مصر والسودان وآسيا وإفريقيا والعالم والفنون والمخابرات والتاريخ والشمس والقمر. ونحدث بعد أسبوع نلوذ فيه بالبيت.. فقد ألحَّ علينا الإرهاق. رغم الزمان يعودني استعبار وأزور قبراً والحبيب يُزار ما يلبث الفرقاء أن يتفرقوا ليل يكر عليهم و نهار أسحاق أحمد فضل الله