القائد العام يزور ود النورة ويعزي في شهدائها    وفد عسكري أوغندي قرب جوبا    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    والي الخرطوم يشيد بمواقف شرفاء السودان بالخارج في شرح طبيعة الحرب وفضح ممارسات المليشيا المتمردة    مجاعة تهدد آلاف السودانيين في الفاشر    تجدّد إصابة إندريك "أحبط" إعارته لريال سوسيداد    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    لدى مخاطبته حفل تكريم رجل الاعمال شكينيبة بادي يشيد بجامعة النيل الازرق في دعم الاستقرار    شغل مؤسس    عثمان ميرغني يكتب: لا وقت للدموع..    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    وفد المعابر يقف على مواعين النقل النهري والميناء الجاف والجمارك بكوستي    الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة يكشف عن إحصائيات بلاغات المواطنين على منصة البلاغ الالكتروني والمدونة باقسام الشرطةالجنائية    الشان لا ترحم الأخطاء    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خواطر عن \"أبو محمد\"...ودولة الوطني الإسلامية!ا
نشر في الراكوبة يوم 26 - 09 - 2011


خواطر عن \"أبو محمد\"...ودولة الوطني الإسلامية!!
شوقي إبراهيم عثمان
[email protected]
1-3
* هذه السلسلة من المقالات كانت في الأصل تعليقا ففضلت أن تصبح مقالات قائمة بنفسها:
هذا الذي يشتمنا ويسمى نفسه باسم مستعار \"أبا محمد\" ويتهمنا بالجهل والكذب بسبب مقالتنا \"لقد فعلها السامري...الحقود علي عبد الله يعقوب)، هو الدافع لكتابة هذه المقالة، وننقل لكم نص عبارته الهستيرية: (سيدنا ابوهريرة ياجاهل كا ن ملازما لخير البشرصلى الله عليه وسلم واخذ عنه الاحاديث فكيف تفترى الكذب على الامام ابو حنيفة بانه لم يكن ياخذ باحاديث ابى هريرة؟ فممن ياخذ اذن؟)
هكذا تبتلينا دولة المؤتمر الوطني الإسلامية حين تحتضن قيادات السلفية الحشوية بأنصار هذه السلفية الذين هم في الغالب صبية لم يكملوا تعليمهم أي فاقد تربوي وكل بضاعتهم شحنات وتعبئة إسلامية عبر الكاسيت، ثم يعطونهم عكاز الدين ويطلقونهم على الشعب السوداني ليس للحوار بل للسباب والتكفير..وربما يعطونهم بعض المتفجرات إذا لزم الأمر. ولم لا وقد سبق أن أنشأ السروريون مصنعا للعبوات الناسفة في الكلاكلة وتسترت على هذا الخبر المرعب دولة المؤتمر الوطني و\"هيئة دهماء السودان\" السلفية التي همها فقط جمع الأموال الخليجية. ولقد تفاجأ الشعب السوداني بالطفل المعجزة عمر ابن عبد الحي يوسف الذي شارك في إنشاء هذا المصنع وعمره لا يتعدى خمسة عشرة عاما فقط!! ولعل المرء يستنتج أن هؤلاء الصبية مخلوقات عصابية مهووسة حركوا فيها غريزة التعصب الديني عبر الشحن بالكاسيت السطحي دون إعمال العقل والبحوث، خاصة إذا فهمنا أنهم فاقد تربوي كما أشارت العديد من المصادر. فالعيب إذن ليس في هؤلاء الصبية بل في دولة المؤتمر الوطني التي اختارت أن تركب مركب السلفيين في تحدي عجيب للشعب السوداني.
\"أبو محمد\" الذي يشتمنا لا يعرف أن أبا حنيفة لا يأخذ بأي حديث لأبي هريرة الدوسي، وهو قطعا يجهل تاريخ الفقه الإسلامي، وقد أخذنا جهله مثالا ودافعا لكتابة هذه المقالة، فنحن نعذره لجهله – فأقصى علمه تلك الكاسيتات التي تملأ السوق العربي. ولقد أتاحت لي الفرصة أن أستمع إلى كاسيت للسروري محمد عبد الكريم، وكثيرا ما سمعت من معارفي يمدحون صوته الجميل، ووصل إلى علمي أن أحد أقربائي وهو طبيب، يقطع المسافة بسيارته \"البعكوكة\" من الدروشاب وحتى الجريف غرب ليصلي معهم صلاة الصبح..ولا أدري هل هي رمضانيات أم في غير رمضان. وهذا الطبيب كل فهمه عن الدين عبر تلك الكاسيتات..وفي سيارته ربما عشرين كاسيت لمحمد عبد الكريم. وحقا لا يوجد فرق ما بين هذا الطبيب وبين أولئك الفاقد التربوي – فإذا لم يسعفه طبه أن يطبق منهج البحث في القضية الدينية فما فائدة التعليم؟
وحين استمعت إلى كاسيت محمد عبد الكريم تيقن لي أنه بضاعة جديدة في السودان، وأنه حقا تربية سعودية مخلوطة بثقافة أهل الشام السلفيين، فالرجل حكواتي ومغنواتي كبير يجيد تأليف الموسيقى التصويرية مع الحدث الذي يحكيه، فإذا كانت معركة مثلا كمعركة بدر وعملت سيوف المسلمين في الكفار يخشن صوته ويرفع عقيرته كأولى العزم، وإذا كان الصحابي الشهيد في النزع الأخير ويوصى قبل أن تذهب روحه إلى بارئها يخفض ابن عبد الكريم من صوته ويصبح همسا، ويعطيه نبرة من الشجن والحزن تتقطع معها أنياط قلب المستمعين، وفي هذا الجو العاطفي يحشر الحكواتي ما شاء له من الأكاذيب – ودواليك هذه كل بضاعته صوت جميل وعقل سقيم!!
تأكد لي بعد سماعي للكاسيت أن محمد عبد الكريم جاهل ومدلس كبير، لقد فات على الجمهور المعاصر أن هذا الضرب الذي يمارسه من الفن الديني وغيره مثل راغب السرجاني، أخترعه الأمويون لكي يعبئوا العوام بالأكاذيب، وأزدهر هذا الفن ازدهارا كبيرا في الفترة العباسية، ثم أرتفع حظه في عهود الانحطاط: أي في الفترة السلجوقية والمملوكية فالعثمانيين، ويسمى هذا الضرب من الفن بالقص، ويسمى صاحبه بالقصاص - و\"القص\" و\"القصاصون\" مصطلحان قائمان بذاتهما في تاريخ المسلمين. وكما أن هنالك \"مفتيا\" للدولة كان أيضا هنالك \"قصاصون\" للدولة يعينهم السلطان، يجلس عادة القصاص في المسجد ويقص على العوام. وكان عملا مهما في رفع شأن السلطان وتخويف وترهيب العوام من جهنم وتزييف الدين والتاريخ، بل وساهم القصاصون في صنع الفتن والمعارك ما بين الشيوخ والمذاهب وسالت فيها الكثير من الدماء.
وقبل أن نفصل ما هو القص ووظيفته، نشير أيضا إلى أن عصام أحمد البشير من القصاصين (أعضاء المجلس الوطني لقبوا عصام \"بالكاسيت\" لموضوع آخر: لأنه كان يردد نفس كلامه في كل جلسة) ولكنه أي عصام رفع أسلوب القص الديني قليلا إلى مستوى \"العصرنة\" بحفظه الكثير من الشعر الأدبي الذي يبهر به المستمعين مع بعض الفلافل الصوتية والحركية، وأخترع عصام ما يسمى \"بالوسطية\" واخذ يتكسب بها في دولة الكويت حتى اكتشفوا بعدم وسطيته مع الدينار الكويتي ففضحه وجماعته الكويتيون حين حلب عصام ضرع وزارة الأوقاف الكويتية حلبا شديدا - فمنعته الدولة الكويتية رسميا من الخطابة في الكويت وأغلقت إقامته واستغنت عن وسطيته المكلفة. هذه \"الوسطية\" التي يروج لها عصام ورغب أن يتكسب منها كخبير ومستشار إسلامي ليست سوى تكتيك مرن في دائرة قوانين القوة أي كيفية اختراق المجتمع المسلم التقليدي سلفيا، ولقد سرق هذه الفكرة من عصام سلفيو الأردن وسوريا ومصر ومنهم يوسف الكودة فأسسوا سلسلة حزبية واحدة في هذه الدول ومنها السودان باسم \"حزب الوسط الإسلامي\". وعصام حقا هو سلفي وهابي، وحين تخرج من جامعة محمد عبد الوهاب ورجع للسودان في بداية الثمانينيات وجد كراسي الزعامة في جماعة أنصار السنة محجوزة للهدية ولأبي زيد يتقاتلان عليها بشراسة، ففضل تكتيكيا جماعة الحبر والصادق عبد الله عبد الماجد الضعيفة والتي وفرت لحراكه ساحة دولية، وحين شعر أنه أصبح قويا ترك الحبر وشركاه، وكعادته في جني ثمار الزعامة الفردانية لم يقترب من السروريين. وهكذا فعصام احمد البشير ليس بعالم في الفقه أو في الحديث بل \"قصاص\" معاصر، وباحتكاكي مع أهل دولة الإمارات، وجدتهم يستخدمون كلمة القص بمعنى الكذب، ربما لا يدرون مرجعيتها التاريخية، فحين مازحني أحدهم، قال الآخر لي: أنه يقص عليك!! بمعنى يكذب عليك!!
فما هو موقف علماء السنة النبوية من القص والقصاصين، وما هي مضارهم الوظيفية؟
ذم غير واحد من علماء السنة أثر القص على الحديث النبوي. قال ابن الجوزي: إن بعض البلاء يجري من القصاصين. قيل لواحد منهم: من أين حفظت هذه الأحاديث؟ قال: والله ما حفظتها ولا أعرفها بل في وقتي قلتها!! وقال أبو حاتم: كان القصاصون يضعون الحديث في قصصهم ويرونها عن الثقات، ولم يقف الأمر عند الحديث والتفسير بل انتهى القص إلى مرحلة أخرى يدمر فيها الأخلاق. فلقد أخذت مواد القصص الغرامية تتكاثر وتتزايد باطراد في أواخر العصر الأموي. حتى حمل السرور والإعجاب بها على إنشاء حلقات من القصص الغرامية تعتمد على أغاني الغزل المشهورة من ناحية، كما تشتبك بمختلف البواعث النابعة من آداب الأمم عامة من ناحية أخرى، ورواها العرب دون تحري مصادرها وإن سموا بعض الأشخاص من أبطال الغرام والعشق الذين لم يكونوا إلا من أبناء الخيال، وهذا الباب ترتب عليه ثقافة جديدة فتحت الطريق لأبواب أخرى تجد على رأسها دعاة الصوفية والانعزالية حين هربوا إلى خلواتهم، وتجد الذين يستدرون عطف الحكام، وتجد الذين يطبخون علوم الكلام لترى على الموائد أصنافا عديدة من أقوال مرجئة إلى أقوال قدرية إلى علوم يونانية. وكل هذا أملاه الواقع الجديد الذي بناه القص.
وقد يتبادر إلى الذهن سؤال: أين كان علماء أهل البيت من هذا؟ نقول:
كانوا يعيشون عيش العلماء وقد زهدوا في الناس وما في أيدي الناس، كانوا يقيمون الحجة ولا يتدخلون في اختيار الناس. فالإمام علي عليه السلام واجه القصاصين ونسبهم إلى النسب الصحيح فقال: أنتم أبو أعرفوني (يعني الرحل يقول أنا جريا وراء الشهرة). أما الحسن بن علي عليه السلام فلقد روي أنه مر يوما وقاص يقص على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال له الحسن: ما أنت؟ قال: أنا قاص يا ابن رسول الله، قال: كذبت! محمد صلى الله عليه وسلم القاص. قال تعالى: (فاقصص القصص)، قال الرجل: فأنا مُذكِّر، قال: كذبت! محمد صلى الله عليه وآله وسلم المُذكِّر، قال تعالى: (فذكِّر إنما أنت مُذكِّر)، قال الرجل: فما أنا؟ قال له الحسن: المتكلف من الرجال).
والخلاصة أن بداية القص والقصاصين بدأت عندما فتح عمر بن الخطاب باب القص وشهد بذلك حديث صحيح في الصحاح، وإن هذا القص زيف الحقائق وشهد بذلك حديث عن البخاري، كما أحدث القص خلط الأمور وشهد بذلك حديث عند مسلم، وانتهى المطاف بالأمة إلى الاختلاف والافتراق على طريق التهوك وكل حزب من الأحزاب في جعبته حزمة من الأحاديث وقد شهد بذلك القرآن الكريم والأحاديث الشريفة وحركة التاريخ. وانتقلت صيرورة القص والقصاصين في المساجد من قصص الوعظ الديني إلى أشكال أخرى, كالقصص السياسي والشعبي الذين دخلا في التراث الإسلامي بشكل عميق ووجهت الناس نحو اتجاهات سياسية وفكرية معينة انعكست آثارها على الحياة الاجتماعية والفكرية السائدة آنذاك وامتدت عبر التاريخ إلى يومنا هذا كحقائق لا يرقى إليها الشك.
ولعل اخطر ما في هذا الإشكال أن الدور الخطر الذي راح يشكله القصاصون هو اختلاق الأحاديث المكذوبة عن الرسول ودخولها فيما بعد إلى كتب الحديث المشهورة والمعروفة عند أهل السنة والجماعة. ثم المتاح من التوراة فيما عرف فيما بعد بالإسرائيليات في كتب التفسير المختلفة ومن هنا كمنت الخطورة التي طالت هذا العلم الذي حشي بالخرافات والأساطير ولم يعد بالإمكان التخلص منه لأنه أصبح جزءً من بنية التفسير ذاته بل والفهم لآي القران ولقد باءت كل المحاولات التي قام بها بعض من المفكرين والمؤرخين بالفشل لتخليص التراث الإسلامي من الحشو الخبيث الذي استمر لقرون طويلة وباتت جزءا لا يتجزءا من التراث فمثلا:
تسربت الكثير من سير الأنبياء والرسل وأخبار الشعوب والأقوام الماضية بالإضافة إلى بداية الخلق ونشأت الكون التي وردت في كتب اليهود إلى كتب التفسير وأصبحت جزاء من بنية المعرفة والعقيدة .وتم وضع الحديث الذي يقول عن رسول الله: (حدثوا عن بني إسرائيل لا تكذبوهم ولا تصدقوهم). وهو حديث مختلق موضوع، وراح يعتمد عليه كذلك عمدة من المؤرخين الكبار في الإسلام من أمثال ابن الأثير في كتابه الكامل وابن كثير في البداية والنهاية. وبناءً على هذا الحديث راحا يحشوان كتابيهما بالكم الكبير من الخرافات والأضاليل اليهودية.
وأول من بدأ هذا النوع من القص هما كعب الأحبار ووهب بن منبه، وهما من بنيا مادة القص الإسرائيلية، وأخذها منهما أبو هريرة وأنس بن مالك وآخرون. وكانت لأبي هريرة صحبة بكعب الأحبار ونقل عنه الكثير من الإسرائيليات وقد حققها الشيخ محمود أبو ريّة في كتابيه \" أضواء على السنة المحمدية\"، وكتابه الآخر \" شيخ المضيرة\". واستمرت وظيفة القصص في بث الخرافات في العصر العباسي وإن كان العصر قد تسامح في تدوين الروايات التي توارثها عن العصر الأموي إلا أن الخرافات التي اخترعها القصاص في العصر العباسي لم تحظ بالقبول، وكان يتندر عليها الحاضرون أحيانا، فيذكر ابن الجوزي أن أحد القصاص قال : إن مات العبد وهو سكران دفن وهو سكران وحشر وهو سكران فقال رجل في طرف الحلقة هذا والله نبيذ جيد..!!
ولعلنا هنا أن نذكر بتميم الداري أول قاص في المسجد النبوي وكان رجلا نصرانيا بايع واسلم وكانت أول قصصه عن المسيح الدجال وحديثه عن (الجساسة) وأخرجه صحيح مسلم، وهي قصة خرافية يقول الحديث أنه قصها على النبي (ص) عند مقدمه وإسلامه فوافقه عليها. ذكر المقريزي أن أول من قص في مسجد رسول الله هو تميم الداري استأذن عمر أن يذكّر الناس ف ولايته فأذن له أن يذكّر في يوم الجمعة قبل أن يخرج عمر للصلاة، فلما تولى عثمان بن عفان استأذن منه تميم في ذلك فأذن له أن يُذكِّر يومين.
وروي تميم الداري أيضا حديثا نبويا موضوعا (لا يقص إلا أمير أو مأمور أو محتال). ويفهم من هذا الحديث المروي عن تميم الداري أن من حق الأمير الولي أن يعظ الناس ويُذكِّرهم ليتفكروا ويعتبروا، وأما المأمور هو الذي يقيمه الإمام, وأما المحتال فهو القاص الذي يرائي الناس بقوله وعمله وبموعظته وحديثه وفي هذه الحالة يجافي الخليفة وقد أطلق عليهم الجاهلون بالعلم.
من هذا الحديث الموضوع نفهم أن وظيفة القاص مرتبطة بالدولة مما رفع من شأن القاص ومكانته الاجتماعية وزادت من موارده المالية بعد نجاحه في كسب ثقة أولي الأمر ورضاهم إلى درجة أن زاد بعضهم من اختصاصه كقاص إلى تسليمه أيضا القضاء وبيت المال كما هو الحال مع عبد الرحمن بن حجيرة الخولاني قاضي مصر زمن واليها عبد العزيز بن مروان (والد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز) الذي شمله الأمير برعايته وعطائه حتى أوصل رزقه ألف دينار في السنة في ذلك الزمان.
لقد نجح القصاص في كسب العامة والبسطاء فأقبل الناس على مجالسهم واعتقدوا في علمهم وفضلهم وفضلوهم على كثير من أهل الفقه وتسرد كتب التاريخ أن والدة أبي حنيفة النعمان حين أفتاها في أمر من الأمور قالت له لا اقبل إلا ما يقول (زرعة) الذي كان يقص على الناس في المسجد فكيف بعامة الناس؟ ويذكر أن الخليفة أبو جعفر المنصور استبدل عقبة بن مسلم الذي كان يؤم المسلمين في مسجد عمرو بالفسطاط بالقاص عبد الله بن عياش، وتأثر عقبة وقال: مالي اعزل؟ والله ما أنا بصاحب خراج، ولا حرب وإنما أنا قاص أصلي بالناس, فأن كنت أطول فأحبوا أن أقصر قصرت وان كنت اقصر فأحبوا أن أطول طولت.
يتضح أن أهمية القاص وما كان يحظى به من أهمية أن تعيينه كان من اختصاص الحاكم أو الخليفة حتى في الأمصار البعيدة، طالما حظي برضا ولي الأمر وطالما كان متجاوبا مع سياسة الدولة منفذا لأوامرها مهتما بإظهار شرعية الحاكم وأحقية البيت القائم بالخلافة. ولا تقل أهمية مرتبته عن تولى القضاء، وكما فهمنا أعلاه جمع بعضهم الوظيفتين معا. وكما رأينا كان القصاص من أكثر عمال الدولة الآخرين قدرة على دفع الناس وتوجيهم للسير في الاتجاه الذي ترغب فيه الأسرة الحاكمة. وقد يُقَّسَم المتكلمون في المساجد طبقا لمجالسهم إلى أصحاب الكراسي وهم القصاص وأصحاب الأساطين وهم المفتون وأصحاب الزوايا وهم أهل المعرفة.
اخذ القصاص يفتون الناس في كل ما يسألون دون علم أو معرفة حتى لا تهتز ثقة العامة بهم، ونورد هنا احد القصاصين عندما سأله احد الحاضرين عن (المزابنة والمحاقلة) لم يتردد في الإجابة قائلا: المحاقلة حلق الثياب عند السمسار والمزابنة أن تسمي المسلم زبونا. علما أنها نوع من أنواع البيع بالجاهلية نهي عنها.من هنا تحولت خرافاتهم إلى أحاديث وكان الناس يتداولونها مصدقين لها ومعتقدين فيها مما أدى إلى أن ترتبط بالدين والتاريخ.
وما الدعوة إلى أولي الأمر الحكام في خطب الجمعة من قبل من يسمون اليوم بالدعاة إلا بقية اثر من بدعة هؤلاء القصاص مهما كان هؤلاء الحكام طغاة وظلمة وفجرة وفسقة. وامتدت الظاهرة منذ معاوية حتى وقتنا الحاضر، وهو الأمر الذي يؤكد سلطة الحاكم ومشروعيته الدينية في الحكم.
وعلى عكس كافة الخلفاء الثلاثة الأوائل والملوك الأمويين والعباسيين وكافة الحكام من بعدهم كان موقف الإمام علي في حياته وفي خلافته من القص والقصاصين مختلفا. دخل علي بن أبي طالب عليه السلام مسجده بالكوفة، فإذا برجل يخوف الناس، فقال: ما هذا؟ فقالوا رجل يُذَكِّر الناس، فقال: ليس برجل يُذَكِّر الناس ولكنه يقول أنا فلان ابن فلان فاعرفوني!! فأرسل إليه وسأله: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: فاخرج من مسجدنا ولا تُذكِّّر فيه!! وحدثنا محمد بن جعفر قال أخبرنا عبد الله بن يحيى قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان الثوري عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: انتهى علي بن أبي طالب عليه السلام إلى رجل يقص، فقال: أعلمت الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، فقال: هلكت وأهلكت!!
وأستمر القص والقصاصون إلى يومنا هذا المعاصر، فوظيفة منظمات الدعوة والدعاة أو رجل الدعوة أو الدعاة أساسها هي القص والقصاصون مع امتداد التاريخ الإسلامي. وإن لم يؤلف الدعاة المعاصرين من خيالهم الحديث النبوي لكنهم يؤصلون ويجذرون ما أختلف المسلمون عليه من أحاديث موضوعة وأساطير ملفقة (مثل أسطورة بن سبأ)، وبهذا الفعل يَحْرِف القصاصون المعاصرون جمهور المسلمين من أخذ العلم مباشرة من مصادره المعتبرة، ويلهونهم من البحث العلمي الرصين بالكاسيتات والأشرطة..شريط فلان وعلان، فيستمر الجهل والخلاف والشقاق ما بين مسلم ومسلم ومذهب ومذهب، ولسان حال كل قصاص كما قال فيهم الإمام علي عليه السلام: أنا الرجل أعرفوني!!
شوقي إبراهيم عثمان
(كاتب) و (محلل سياسي)
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.