التاسع من يناير في العام 2011. جوبا تنتظر شمساً غير التي اعتادتها المدينة النائمة على حضن بحر الجبل طوال السنوات الماضية. الآتون من زمان الحرب يتجهون نحو صناديق المفوضية يرفعون أياديهم المختلطة (بالحبر) الذي يكتب عبارة واحدة بدت على محيا كل الوجوه هناك (دنت لحظة الافتراق). الجميع يمضي إلى هناك تسبقه ابتسامة وداع زمان (الاستعمار الشمالي) بحسب خطاب ما قبل الوصول إلى الصناديق. على مقربة من قبر جون قرنق اختلط إبهام سلفاكير بحبر المفوضية واختلطت عيونه بالدمع ونطق بالعبارة "الآن يمكننا القول بأن دماء الشهداء والرفاق لم تضع هدراً" على بعد خطوات محسوبة جثت ربيكا على قبر رفيق العمر تبكي من ذهبوا وترسم مشاهد آخر الاحزان في أحضان الآخرين ممن كانوا هناك ومهروا النسبة التي تجاوزت ال98% لخيار الانفصال ظناً منهم أنها آخر الدموع في وطن الأحزان. ثلاث سنوات مضت على استفتاء الصناديق وعلى الحلم في التحول نحو عوالم أخرى في وطن جديد، يمكنك أن تقرأها مع أصوات الغناء والرقصات الفرحة بما هو آت. يمكنك فقط أن تقرأ مشهد (المفاصلة) من خلال الدموع المنسربة على تلك المآقي. تلك البلاد تملأ ماعون بحرها بالدموع. ربما يكون المشهد الأكثر توصيفاً لحال الدولة المولودة من ضلع أخطاء إدارة التنوع والتعدد في أفريقيا ما بعد الاستعمار هو مشهد جوبا بعد ثلاث سنوات. من ظن أهلها أنهم غادروا فشل الدولة الأم ليكتشفوا أنهم رضعوا من ذات (الثدي). باقان أموم المحتفي آنذاك بخروجه من سجن السودان الكبير يقبع في التاسع من يناير بعد سنوات ثلاث في سجن الاختلاف بين الرفاق! (ربيكا) التي أخذت دموعها وقتئذ من ذات نهر سلفاكير الفرح هي نفسها من تقود الآن معركة الإصلاح في مواجهة خليفة زوجها في مقعد الرجل الأول في الجنوب. جوبا بعد ثلاث سنوات، تغير فقط مشهد الصناديق، فالصناديق المحشوة بأوراق الوداع في ذلك الزمان، محشوة اليوم بالبارود، والدموع التي ودعت الحرب في ذلك الصباح هي ذاتها الدموع التي تبكي منها اليوم، والبعض يردد عبارة واحدة: "وكأنك يا أبو زيد ما غزيت". وغزوات أصحاب العيون الخضراء لا تقف عند محطة الاستفتاء، تطالب سودانيي المليون ميل مربع بالخضوع لخيار الشعب، وهي نفسها تطالب اليوم سودانيي الدولة الجديدة بالإذعان لخيار المفاوضات لحسم جدل التنازع السلطوي بين الرئيس ونائبه في لحظة الذهاب إلى الصناديق. ذاكرة الافتراق في عامها الثالث يرافقها السؤال: هل تحقق مبتغى السودانيين في سعيهم للسلام والاستقرار؟ وقال سلفاكير وهو يرفع إصبعه وعلامة الحبر عليه بعد أن شارك في الاقتراع: "إنها اللحظة التاريخية التي طالما انتظرها شعب جنوب السودان"، وطالب الجنوبيين بحماية مراكز الاقتراع وأضاف: "أقول للدكتور جون (قرنق) ولكل الذين قتلوا معه إن جهودهم لم تذهب سدى". حديث سلفا يعيدك لذات النقطة المتعلقة ب: هل يتواءم ما توصل إليه السودانيون والدماء التي غطت شاطئ النهر في سنوات النزاع المتطاولة؟ وربما يلحقه آخر: هل توقف النزيف نفسه ناهيك عن نتائج السلام؟ الإجابات بواقعها الصادم قد تعيدك لذات سؤال الانطلاق: هل كان بالإمكان تجاوز ما كان؟ وهو سؤال يبدو بعد ثلاث سنوات لازم فائدة تفيدك به وقائع اللحظة الماثلة. قنع الجنوبيون من بلح الوحدة باكرا دون أن يحصلوا على عنب الانفصال، بأشجار متشابكة أغصان السلام فوق سارية قصرهم الذي علته الراية في التاسع من يوليو، في ذات عام بداية معركة الاستفتاء. فالحرب ما زالت راياتها مرتفعة عند الهاربين من جحيمها. مشهد الموت قد يتلاءم ومشاهد البحث عن إيقاف النزيف عبر المفاوضات في عامهم الثالث تعود النخبة الجنوبية إلى أديس ولكن هذه المرة منقسمة على نفسها بعد أن ذهبت إلى ذات المدينة ككتلة واحدة في العام 2011 لتلتقي ومبعوث الاتحاد الأفريقي ثابوامبيكي وهو يخاطب جمع السودانيين بشمالهم وجنوبهم قائلاً: "رجاء اعطوا التاريخ فرصة" محاولاً معهم تجاوز مخاض الافتراق وربما في مخيلته إعادة تجربة المصالحة الجنوب أفريقية في أكبر أقطار القارة، ولكن ذهبت وصيته أدراج الريح وأسلم السودانيون أمرهم لبصمة الصناديق الانتخابية تاركين المستقبل في علم الغيب. ثلاث سنوات وما تزال (التركة) في طور التقسيم المتتابع الخطوات آخرها ما مهرته أديس نفسها عبر اتفاقية التعاون المشترك بين جوباوالخرطوم المعلن الالتزام بها من قبل الطرفين، لم تنته تلك التركة إلا ودخلت التركة الجديدة (تركة النزاع الجنوبي الجنوبي ومترتباته) على السودان الشمالي الذي وجد أقدامه تنزلق إلى ذات هوة الصراع حين محاولته الخروج بإخوة الأمس إلى بر الأمان والسلام.. السلام المرهون بإطلاق سراح باقان أموم ودينق ألور وكوستا مانيبي للمشاركة في المفاوضات الجارية الآن والتي تعترضها العقبات والمتاريس. هكذا يبدو المشهد الجنوبي الغارق في صراعاته منذ اختيار أهله ما رأوا أنه الحل لمشكلاتهم ليبقى السؤال الآخر المتعلق بالمشهد الخرطومي في سودان ما بعد الاستفتاء.. يمكنك العودة لذات اليوم حين أزالت السلطات الغطاء الأسود من منزل الزعيم الأزهري احتجاجاً على مشهد الانفصال ليبقى ذات اللون المزال هو المعبر الحقيقي عن مسارات السودان وهو يعاني لدفع فاتورة ما بعد ذهاب الجنوب، يمكنك تسميتها في نص آخر فاتورة ما بعد خروج النفط أو فاتورة دفع فاتورة الحروب المتوارثة من الحرب الأولى أو فواتير التأخير في الوصول إلى تسوية شاملة ترضى عنها القوى الدولية وهي الفواتير التي أثقلت كاهل الميزانية الاقتصادية في البلاد ودفعت أثمانها بأشكال مختلفة أبرزها صراع السلطة والمعارضة المتنامي وغير المتناهي، ليصل المشهد في خواتيمه في انتظار السودان لأفواج اللاجئين الهاربين من جحيم دولتهم الجديدة وحربها. في التاسع من يناير للعام 2014 يتغير فقط الرقم الأول وتبقى أرقام الموت في تزايد مع أرقام ضعف التنمية وأرقام اللاجئين والنازحين؛ ليبقى المشهد وكأنه إعادة للدموع الأولى ولكن بأسباب مختلفة ومن أشخاص مختلفين