حين جئت إلى جوبا هذه المرة، أي قبل نحو شهر من موعد إجراء الاستفتاء لتقرير مصير جنوب السودان، لم تكن الأجواء كأي مرة سابقة، ثمة روح متوترة في الجو العام، بعض الغلاء في أسعار السلع الأساسية دفع المواطن الجنوبي إلى نوع من القلق، وبدا أن الناس مقبلون على حدث جلل.هكذا كان عليَّ - أنا الصحافية الشمالية - أن أتحسب لخطواتي وأنا أستمع إلى صوت الناس، في ظل هذا الحدث التاريخي الذي يتوقع منه أن ينهي سنوات طويلة من الصراع والغضب، ويقطع جزءاً غالياً من جسد السودان الحبيب. عبرت الأغلبية العظمى عن رغبتها في الانفصال، ليبقى شكل المستقبل رهناً بما سيختاره الناس في صناديق الاستفتاء، إن تم في الموعد المقرر له في التاسع من يناير المقبل، في ظل أجواء نتمنى أن تكون شفافة ونزيهة، لتخرج نتائجها معبرة عن أحلام الجنوبيين، لأنهم أصحاب القرار، والأيام المقبلة كفيلة بالإجابة عن أسئلة المصير. بينما كنت أسير في أحد شوارع حي 'ملكيا' في العاصمة الجنوبية 'جوبا' لفتت انتباهي شابة أبنوسية تطل من عينيها نظرة حزن، فأمها كانت تحمل أختها الصغرى، لكن رصاصات الحرب قتلت الطفلة أولاً ثم أصابت الأم، قالت زينب عندما سألتها هل ستصوت للوحدة أم الانفصال: 'أهلي ماتوا في الحرب وأنا جنوبية مسلمة، والشماليون قتلوا أهلي، الاستفتاء فرصة لكي نستقل، نصوت للوحدة عشان شنو..؟'. تركتها ومضيت لأواصل سيري فترة طويلة، وأنا أفكر أنني ربما لن أكون بعد شهر مرحّباً بي في هذه المدينة، منذ الآن بدأت ألاحظ الترحاب الذي يستقبلني به الناس باعتباري غير سودانية، لينتهي الأمر بالتحفظ وانعدام الثقة إذا ما شعروا أنني سودانية، الأمر الذي يثير غضبهم ويدفعهم إلى إنهاء الحديث فوراً. كنت أدرك أن هذه المسألة حساسة جداً، لأن هناك انطباعات ورواسب لم تكن السنوات الست الماضية كافية لتذويبها في قلوب كثير من الجنوبيين، خاصة في ظل الأجواء السياسية المُحتقنة طوال تلك الفترة ما بين شريكي الحكم في السودان 'المؤتمر الوطني' و'الحركة الشعبية'. حين كنت أفكر في ذلك سقطت أمامي سيدة خمسينية على الأرض، حاولت مساعدتها لتنفض الغبار عنها وتقف مرة أخرى، 'ربيكا' امرأة من قبيلة 'الدينكا' لا تعلم شيئاً عن الاستفتاء على الإطلاق، لا تعرف حتى معنى هذه الكلمة، حاولت أن أشرح لها، فقالت إنها لن تذهب للتصويت ولا يفرق معها أمر وحدة أو انفصال، واكتفت بالقول: 'إحنا دايرين بس سلام وتنمية في الجنوب ما دايرين حرب تاني'. حاولت البحث في شوارع جوبا عن إجابات لأسئلتي، فتوغلت عميقاً في دهاليز المدينة، الأمر الذي جعلني أزور أطرافها، خاصة في سوق 'كونجو كونجو' وسوق 'جوبا'، حيث يوجد نبض المدينة ومواطنوها العاديون. 'الصحف في الشمال لا تقول الواقع في الجنوب، كله شغال لمصلحته'، هكذا بدأ شول ميون حديثه معي، مطالباً بضرورة ألا أحرّف كلامه. شول رجل أربعيني يبيع السجائر والبطاريات وكروت الموبايل في سوق جوبا، لكنه يصف نفسه بأنه انفصالي من الدرجة الأولى، كما اعتبر أن الانفصال حقق للجنوبيين مكافأة وتعويضاً عن كل ما عانوه على مر التاريخ. وأصر ميون على أن الجنوب مؤهل للانفصال، مؤكداً أن كل من يشكك في هذا الأمر طامع في خيراته ويريده أن يكون تحت الوصاية طوال الوقت. ولم يختلف مايون يين وهو رجل ثلاثيني عن شول في نزعاته الانفصالية، بل زاد عليها أيضاً قوله إنه انفصالي 'مئة في المئة' وعاد للجنوب بعد اتفاقية السلام، معتبراً أن هناك فرقاً كبيراً بين جنوب ما قبل وبعد 'نيفاشا'، مدللاً على ذلك بتوفر الكهرباء والماء والسيارات قائلاً: 'كل شي أصبح متوفراً في جوبا، ونعيش في سلام حتى أنت ذاتك لو السلام ما جا ما كنت جيتينا هنا في الجنوب السودان، إحنا في جوبا عايشين أحسن من ناس الشمال، لأنه الشماليين كانوا ماسكين البترول حقنا، كلنا نتمنى الانفصال، يكفي أننا في سنة 2005 كان هنا ثلاث عربات فقط، لم يكن هناك جنوبي يملك سيارة إلا إذا كان جنوبيا يعمل لمصلحة الشماليين، لكن الجنوبي الوطني لم يكن عنده'. أكوت رجل في نهايات العقد الثالث من عمره يعمل سائقاً، سألته عن الفارق الذي يراه في جوبا ما قبل وبعد اتفاقية السلام، فقال: 'هناك مليون فرق في الحياة، الآن توفرت في الجنوب حاجات كثيرة، الشمال لم يعد جاذباً للجنوبيين'. وعن الاستفتاء قال: 'بصراحة إحنا في الجنوب مستعدين ننفصل' فسألته هل من الممكن أن تقبلوا الوحدة إذا ما حدثتكم عنها حكومة الجنوب؟ فرد غاضباً: 'حكومة الجنوب تقول كيف كده..؟ نحن انفصاليون مية المية وحكومة الجنوب مجبورة تشتغل برأي المواطنين الجنوبيين، نستطيع أن نعيش مع 'نمر' ونقعد مع 'ديب' أو أي حيوان متوحش في الخلاء، لكن ما نتوحد مع الشماليين، أحسن لنا الانفصال لأن الشماليين يعتقدون أن الزول الأسود زي القرد'. أثناء حديثي مع أكوت تدخل أحدهم في الحديث قائلاً: 'ياخي بس أنا داير أقول حاجة إذا السودان دولة عربية ما دايرين نكون دولة عربية، لأننا لسنا عرباً، نحن دولة إفريقية وقاعدين في أرض إفريقية وشمال السودان ما أرض عربية إحنا كلنا جغرافياً نعيش في قارة إفريقية'. أما جون، فقد سألته عن عمله فردّ: 'أنا لا أعمل لكنني مبسوط أكثر من أي شخص يعيش في الشمال، أمس عاد ابن عمي الذي كان يعمل في الشمال، عاد مريضاً وحين علم صاحب العمل بمرضه أرسله يموت في بلده، حتى المسلمون في الشمال يعاملون الجنوبيين المسلمين كدرجة ثانية'. شاب آخر يدعى دينق دينق يبلغ من العمر 18 عاماً يعمل بائع أحذية قال: 'الأوضاع في شمال السودان مقسمة، الشماليون رقم واحد والجنوبيون في الآخر، لذلك فإن الجنوب سينفصل سينفصل، فقد جربنا في الفترة الانتقالية ست سنوات، بعد عدة سنوات سيكون الجنوب أحسن من الشمال ذاته'. لكن مايكل ماتوك دوت اعترف بغلاء مدينة جوبا، وقال - وهو رجل ثلاثيني ينتمي إلى قبيلة 'الدينكا': 'الحياة هنا في جوبا غالية جداً'، كان ماتوك الذي يعمل في السوق بائعاً للملابس قال إن العمل جيد في جوبا لكن السوق في تعب، أحياناً يمر يوم كامل بدون زبون واحد، وقال: 'القروش لا تكفي'، وواصل يحكي قصته: 'قعدت في مصر ست سنوات ورجعت إلى الخرطوم قبل عام، بعدها عدت للجنوب لأنه بلدنا'. وأكد الرجل أنه سيصوت للانفصال، معللاً ذلك بالقول: 'إذا انفصل الجنوب فسيتمكن من حل جميع مشاكله، وكل الذين يقولون إن قبائل الجنوب سيحارب بعضها بعضا بعد الانفصال أقول لهم: لا تشتغلوا بنا، فنحن نستطيع حل أمورنا'. جيمس سوكا شاب عشريني ينتمي إلى قبيلة 'الباريا' يقوم بتلميع و'ورنشة' الأحذية للمارة، ذكر لي أنه تزوج منذ عام ومنحه الله طفلة صغيرة يحبها ووالدتها كثيراً، وقال: 'لا أعلم ما إذا كنت سأصوت للانفصال أم للوحدة، وسأرضى بما يختاره الناس في الجنوب'. الجريدة