أحيانا، ربما يكون الأمر غير المعلن أكثر وضوحا مما هو مذاع. ويكون الحدث الذي لم يقع أكثر دلالة وتأثيرا من كونه قد وقع بالفعل. استنادا على هذين المنوالين يستكين غالبية المحللين السياسيين في تحليلهم للقاء أمس (الجمعة) ببيت الضيافة، ولم يكونوا ينتظرون أن يفصح الدكتور حسن الترابي أكثر مما أفصح بجلوسه مبتسماً يمين الرئيس المشير عمر البشير، وإلى شمالهما الفريق أول ركن بكري حسن صالح النائب الأول للرئيس، وفي معيتهم النائب الأول السابق علي عثمان محمد طه، وبقية الحرس القديم. ثم يتوارى الترابي عن منصة أنظار الصحافيين. وفي كل الأحوال، فإن لأي من الحزبين مطامعه غير المعلنة عند الآخر، فما هي وكيف يحققانها؟. قال مصطفى عثمان إسماعيل، أمين العلاقات السياسية بحزب المؤتمر الوطني، للصحافيين عقب اللقاء الذي استمر زهاء الساعة "إن اللقاء تطرق إلى القضايا الوطنية، ومبادرة الرئيس". وأكد على أهمية أن ينتظم الحوار مع بقية الأحزاب في أسرع وقت ممكن. بينما قال ممثل المؤتمر الشعبي بشير آدم رحمة في جملة مقتضبة "إذا فشلنا في الحوار سنكون أجرمنا في حق الشعب". وبالطبع كان حاضرا في ذهن رحمة أحداث جامعة الخرطوم، وهي أحداث غير معزولة عن واقع أزمة دارفور، وتعتبر بالنسبة لكمال عمر عبد السلام، الذي حضر اللقاء بوصفه المسؤول السياسي لحزب المؤتمر الشعبي: "استخفاف من الحكومة وعدم اكتراث منها بأرواح المواطنين". رغم الهفوات السياسية التي تلاحق الترابي منذ هندسته للانقلاب في 1989، إلا أن الأنظار تتجه إليه هذه المرة، رغبة منها في إبطال تكتيك الحكومة الذي يعتمد التفاوض والحوار كأداة لكسب الوقت؛ حيث عرف عن الحكومة أنها تستخدم هذا التكتيك بفعالية من أجل البقاء، وهو تكتيك أثبت نجاحه بكثرة الاتفاقيات التي وقعتها مع خصومها دون أن تكلف حزب المؤتمر الوطني سلطته. بالطبع، دخل الطرفان لقاء الأمس وفي باليهما تحذيرات شديدة اللهجة، تنبه إلى مغبة تلخيص اللقاء في "عودة الإسلاميين لما قبل 15 عاما"، وفي هذا قال رئيس حزب الأمة الصادق المهدي أمس الأول (الخميس) إنه سيعارض هذا التقارب لو ثبت إنه بشأن إعادة نسخة الجبهة الإسلامية قبل ربع قرن. لكن، ليس هذا هو جل ما يهم الحكومة، إنما ما يهمها بالفعل هو مقدرتها على توظيف الترابي في حلول الأزمات التي تتفاقم لتعتقلها أكثر، بغض النظر عن أمد أفرادها في دست الحكم، فالحكومة أحوج ما تكون إلى عملية تحرك مزدوجة، تتمثل في إيجاد تهدئة سياسية داخلية، على الأقل، وتقوية وتطوير علاقاتها مع دول الجوار، ومع دول المحيط العربي. لهذا يتبادر إلى الإذهان السؤال التالي: هل يستطيع الترابي أن يفعل ذلك؟ يقول المحلل السياسي، أنور الفكي سليمان، إن حدود قدرة الترابي التي تعلمها الحكومة يتمثل في كونه جزءا من حل أزمة دارفور، على خلفية الإشارة إلى أنه يمثل مرجعية فكرية وسياسية لحركة العدل والمساواة التي أنشأها تلميذه د. خليل إبراهيم. ويمثل أيضا مدخلاً إلى الحركة الإسلامية العالمية التي حجّمت دعمها لحكومة الوطني في السودان. والواقع أنه على مدى شهور العام المنصرم، تجندت أحداث إقليمية مترابطة، فقد على إثرها الترابي قوى خارجية كان يمكن لها أن تكون داعمة، إذ تم عزل الرئيس المصري محمد مرسي المنتمي لجماعة الأخوان المسلمين من منصبه، واعتقل قادة "الإخوان المسلمين" هناك، ثم تجدد الأمر بتسمية التنظيم تنظيما إرهابيا من قبل السعودية، كبرى دول المنطقة وأكثرها تأثيرا. صحيح، قد يتذكر الناس دولة قطر، التي وفرت دعما للجماعات الإسلامية، واستضافت شخصيات موالية لجماعة "الإخوان المسلمين وحلفائهم". ووفرت لهم، كذلك، منبرًا إعلاميًا. وفوق ذلك، يحظى الترابي باحترامها، إلا أن قطر على وشك أن تفقد نفوذها في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، وباتت تواجه أزمة متصاعدة، في ظل الضغوط التي تمارس عليها من دول الجوار الخليجي، لإعادتها لتجلس في المقعد الخلفي. مما يشير، بحسب المراقبين، إلى قرب حدوث زلزال سياسي يعصف بقطر نفسها. وهنا فقط، يتعين علينا أن نتذكر تعليق أميركا الرسمي على سلام دارفور الذي ترعاه قطر. قد يستطيع الترابي أن يكون منقذاً للحكومة، أو داعما لها، في أقل تقدير. لكن، لا يمكن نسيان أحلام الترابي ورغباته السياسية بسنينه فوق الثمانين. فما الذي يريده الترابي من الحكومة في حواره معها؟ ومنذ 15 عاما يذيع تلاميذ الترابي أنه زاهد في السلطة وبوصف بأنه "إمام للحريات السياسية"، وأن الناس توهموا عليه في مصطلح التوالي السياسي، وظنوا أن الترابي يريد منه إقصاء بقية الأحزاب في دستور 1998، ويشددون على أنه مفكر مهيب. صحيح، قد تغلب على الترابي النزعة الفكرية، ولكنه يعلم كيف يخلط السياسة إلى الفكر، ويدرك معاني أخرى للسلطة بمفهومها العريض. فهل بالفعل ينوي أن يكون نسخة جديدة للإسلام السياسي المحارب في المنطقة، كما يرى الفكي؟ يقول المحلل السياسي الدكتور خالد التجاني إن الترابي عاد لاعبا سياسيا محليا، ويحاول استعادة نفوذه الذي فقده بمفاصلة 1999، ويشير التجاني إلى أن الخطاب السياسي الأخير لحزب المؤتمر الشعبي جاء خاليا من حمولة الإسلام الأممي وتصديره إلى الخارج، ويضيف: "وجد الترابي في دعوة البشير فرصة أخرى لاستعادة نفوذه القديم داخليا... خصوصا بعد إقصاء البشير لمجموعة من تلامذة الترابي الذين أصبحوا بمثابة الغرماء". مجدداً، ربما يكون أمر المؤتمرين غير المعلن أكثر وضوحا مما هو مذاع. ومن حقهما أن يقفا معاً" لما تقتضيه قراءة معطيات الواقع الذي يواجه السودان" كما يقول رحمة. ولكن، على أي منهما عدم الاقتراب من الآخر كثيراً.