إسحق أحمد فضل الله يكتب: (تعليل. ما يجري)    الأهلي مدني يدشن مشواره الافريقي بمواجهة النجم الساحلي    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    إبراهيم شقلاوي يكتب: هندسة التعاون في النيل الشرقي    حوار: النائبة العامة السودانية تكشف أسباب المطالبة بإنهاء تفويض بعثة تقصّي الحقائق الدولية    الأهلي الفريع يكسب خدمات نجم الارسنال    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    يرافقه وزير الصحة.. إبراهيم جابر يشهد احتفالات جامعة العلوم الصحية بعودة الدراسة واستقبال الطلاب الجدد    بيان من وزارة الثقافة والإعلام والسياحة حول إيقاف "لينا يعقوب" مديرة مكتب قناتي "العربية" و"الحدث" في السودان    حسين خوجلي يكتب: السفاح حميدتي يدشن رسالة الدكتوراة بمذبحة مسجد الفاشر    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    نوارة أبو محمد تقف على الأوضاع الأمنية بولاية سنار وتزور جامعة سنار    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    المريخ يواجه البوليس الرواندي وديا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تنقيب الظلام:العين بصيرة وإدراكُ ما تبصره أعمَى
نشر في الراكوبة يوم 24 - 06 - 2010


eltlib@gmail.
بائع اللبن
كتب هاروكي موراكامي في روايته كافكا على الشاطئ: (عرّف جان جاك روسو الحضارة بأنها عندما يبني الناس الأسوار. ملحوظة ثاقبة جداً. وحقيقية - كل الحضارة نتاج لنقص الحرية داخل الأسوار. سكان أستراليا الأصليون هم الاستثناء الوحيد، إذ انشأوا حضارة بلا أسوار، ظلّوا متمسكين بحريتهم بأيديهم وأسنانهم حتى القرن السابع عشر. كان يمكنهم الذهاب أينما شاؤوا، ومتى شاؤوا، كانت حياتهم ترحالاً بملّء معنى الكلمة.
المشي هو الاستعارة الصائبة لوصف حياتهم. وعندما جاء البريطانيون وبنوا الأسوار ليضعوا مواشيهم في حظائر، لم يستطع سكان أستراليا الأصليون أن يفهموا، ولجهلهم الهدف من ذلك من حيث المبدأ، تمّ تصنيفهم كأشخاص خطرين وغير اجتماعيين وسيقوا بعيداً، إلى البراري. لهذا أريدك أن تكون حذراً. من يبني أسواراً عالية وقوية يبقى في أفضل حال. أنت تنكر هذه الحقيقة فقط عندما تكون أنت نفسك مهدداً بأن تساق إلى البرية).
عن رواية (كافكا على الشاطئ)
(1)
وَقَفَ صاحبُ الربابةِ؛ بشوَّالاتٍ أَدخَلَت الرياح وحَجَبت أعين المارّة عن بيته، بطَشته الطلسيّ العاجن لملابسه القديمة في بطنه، بألوانِ خِرَقٍ تبعث بإيقاعاتٍ غامضةٍ وهي تُزيِّنُ ربابةً حديثة الصنع؛ وقف صاحب الربابة بحياته كلّها مَعكوساً على شاشةٍ سينمائيّة على سطح معهد جوتة بالخرطوم، ليلة الخميس الماضية 18 يونيو من العام 2010م. هو فيلمٌ توثيقيٌّ لحياته وحياة من حوله؛ توثيقٌ للموسيقى السودانيّة، للحياة في بيوتِ القشّ والطين والشواويل، للأسواق ترتجُّ بالابتسامات _زلزالُ أسنانٍ جميلة التكوين_ لعجلات ووقفاتٍ دراميّة، والأهمّ من كل ذلك أنه لم يكن، أبداً، في نظري الضعيف جدّاً، توثيقاً للبؤس والشقاء والفقر، وإنما توثيقٌ لهزيمة كلّ ذلك بإرادة الحياة، بمادّة الفنّ الحيِّ أبداً داخل كلّ بشريٍّ، بتلك العيون القاهرة للزمن!. صُوِّر الفيلم الذي أخرجه ماريو مبور في إحدى أحياء الخرطوم المركزيّة (اعتاد الناس أن يسموها بالطرفيّة، إلا أنها أحياءٌ كوَّنت كلّ هذه العاصمة المدنيّة ذات الأبراج، وأسكنت بداخلها الأغلبيّة الساحقة من سكان المدينة، فكيف، بربّكم، تُسمّى طَرَفيَّة؟!). سأكتب عن هذه الأفلام في يومٍ آخر، ما يهمني هنا ليس الفيلم، وإنما ذلك المتداخل المشطور عن حياة بلاده، والذي قال، بكلِّ وقاحةٍ، إنه (لم يَرَ شيئاً من \"السودان\" في هذا الفيلم \"المضحك\")!، لقد قال (الفيلم المضحك)!
في الجزء السابق لهذا المقال تحدثت عن شعب الزجاج المشطور المُعلَّق في الفضاء الانترنتي وفي موقع سودانيز أونلاين تحديداً، وقد فعلت خيراً إذ أَجَّلت كتابة الجزء الثالث من المقال حتَّى أقابل تعليق مُتداخلٍ ألقى به بعد نهاية فيلمٍ من أفلام السودان التوثيقيّة العظيمة، بل إنه يُضيف، إمعاناً في الانشطار، أن الذي رآه من الممكن أن يكون في دولةٍ أخرى ك(مالي، أو كينيا أو ما شابه!)، تدلَّى فكُّ أغلبِ الحاضرين واندهشوا، إلا أنني أقول: رويدكم فالاندهاش هنا بعيدٌ عن المنطق، ويشُوبُهُ بعضٌ من تفاؤلٍ غير محمود، لأن حديثه يحملُ جزءً كبيراً من حقيقةٍ صعبة البلع وتحتاجُ لتنقيبٍ يائس. ففي اللحظة التي نَطَقَ فيها ذلك المتداخل بجملته، راميةُ الإفكاك هذه، كانت الكاميرا في ذهني ترتفع من سطح معهد جوتة لتمسح وسط الخرطوم من أعلى، ترتفعُ لتُعاين أحياء الخرطوم جميعها، ترتفعُ عاكسةً المنظر الخلاب لمدينة الخرطوم صغيرةً يتقاطع السحاب من فوقها، وقد شَحَذَ جمالها ملتقى النيلين المُنتَهَك، المتروك، ترتفع لتُضاء مُدُن السودان واحدة.. واحدة في ذلك الليل، ومن ثمَّ تتقلَّصُ مظاهر الحياة شيئاً فشيئاً حتّى تجفّ الرؤيا والدةً خريطةً جغرافيّةً سمراء تُوضِّح الدول المجاورة في السودان واحدةً واحدة، وتتسلَّلُ روائح العرق الأفريقي إلى الأنف مُتصاعدةً من إبطيَّ، غامرةً كيان الخريطة التي ارتفعت حتَّى بيَّنت، بصورةٍ قاطعة، أن هذه البلاد هي عضوٌ قلبيٌّ من قارَّةٍ قلبيِّةٍ تُسمَّى أفريقيا.
أفريقيا يا أُمِّي.
(2)
لا يُحيطُ ببيتنا جيرانٌ كالذين يعتقد صاحب المُداخلة أعلاه أنهم السكّان الأصليون لكوكب السودان المُعَشعِش في خياله، وإنما ذات البيوت الخَيشِيَّة الغامرة لأعضاء فيلم (الربابة)، وعندما انتقلت للسكن هناك أوَّل الأمر وجدت أن العلاقات كانت قد تطوَّرت، بصورةٍ مذهلة، بين الجيران الأفريقيين (يمكن أن تجدهم فقط في الكونغو مثلاً) والتشكيلي عبد الله أب سفَّة، الساكن الأصلي للشقَّة، وبعد مدَّةٍ اكتشفتُ أن اسمي قد أُسقط، بعد أيامٍ، ليُصبح (بوب) نسبةً للشَعْر (وليس الشِعر) البُوب مَارِلِيّ المُرَبَّى في رأسي بمحبَّةٍ جيَّاشةٍ لذلك الفنان الأسطوري، شعرٌ لا يروق، بالتأكيد، لسلالات الأُسَر الخرطوميّة العريقة: \"سُكَّان السودان الأصليون\". تحوَّل الشعر، المثير لاشمئزاز الأعين في بعض المناطق الآمنة في الخرطوم، بلمسةِ صوت بوب السحريّ، شفرةً سريِّةً نصَّبتني محبوباً للجماهير في حيّنا، ليس ذلك فحسب، وإنما تعرَّفت لحقيقةٍ جديدةٍ تخصّ بوب، وهي أن الأفريقيّ يُولدُ وصورة بوب مارلي تسبح في دمه منذ يومه الأوّل، هادئةً مُبتسمةً وترقص. فعندما زرت الجيران قبل أيامٍ؛ وجدتُ الأمَّ وابنها الصغير نائمان في سريرٍ واحدٍ نومةً عميقةً وبجانبهم طفلةٌ في عامها الثاني تلعبُ بطينٍ هشٍّ، وَقَفَت عند رؤيتي، وركَضَت لأمّها لتوقظها قائلةً: (ماما.. ماما.. بُوب جَا)!.
عادت ذاكرتي، لحظتها، لطفولةٍ كُنتُ أُلقَّب خلالها باسم (راستا)، دون أن أمتلك شَعرَاً راستيَّاً حتَّى، إلا أن تلك الطفولة امتلأت بإيقاع الريغي عن آخرها، ورزَحت حقيبتي تحت ثِقَلِ دفترٍ أحمر كبير الحجم، كثير الورق، وقد كتبت على أوراقه أشعار بوب مارلي بخطِّ اليد، بألوانٍ وخطٍّ كبير، وسمَّاعةٌ تسدُّ أذنيَّ عن آخرهما ساكبةً سيلاً من الأغنيات المُحرِّرة للذهن، الموقظة للخيال، واللاحمة لهويِّتي المزيَّفة حينها، أبداً، مع هويَّةٍ أفريقيّة تُدمعُ العين عندما تكتشف العين عماها وهي البصيرةُ بما يكفي: هذه هي الشوارع تكتظُّ بأهل غانا ومالي وكينيا وإثيوبيا، بغرب أفريقيا وشرقها وشمالها وجنوبها، بلغات أفريقيا الأكثر حيويّة. أدركت منذ الصِغَر أن الحياة البشريّة لا يمكن أن تكون، أبداً، دون عشقٍ قاتلٍ للحياة، دون انغماسٍ في قذارتها وجمالها وتشويهاتها، شرِّها وخيرها، أحلامها وكوابيسها، أن تَغرِسَ العين في اللحم الحيِّ للهواء والواقع، أن تسحب، بكلِّ قوَّتك، جميع الروائح وتحبّها بشغفٍ وتكرهها بإخلاصٍ، أن تقتصَّ من الجِلدِ بإشعال كل خليَّةٍ فيه بنار التجارب وخراقةِ القتل والانتهاك، أن تشدّ على قبضتك لتتذكَّر عروقك، في كلِّ يومٍ يمرّ، يشتدّ بداخلها الدم الإنساني الأحمر الساري في عروق البشريّة جمعاء، ذلك الدم المحجوب بالجلد المُلوَّن بالبياض، بالملامح والروائح، ذلك الدم الذي حُرمنا من رؤيته إلا في الحرب فقط؛ تتصاعد الصرخةُ بداخلك: (Africa Unite)!
رمزٌ كبوب مارلي تخطَّى شهرة المريخ والهلال وموقع سودانيزأونلاين في السودان وغير ذلك من الرموز السودانية، إذ أنَّ أفريقيي العالم يشعرون بأنهم قدّموا إلى العالم مادّةً خاليةً ومنزّهةً من كلِّ شرٍّ، وقد تلقَّف العالم هذه الهديّة بكل شَغَفٍ كما تلقَّف كرة القدم والموسيقى والآداب والفنون والسينما، كذلك مثلما تلقَّف الحرب والتدمير والانتهاك، فهذه ليست بثنائيَّات، وليست على ذلك القدر من التضاد أيضاً، فالفكرة، في أساسها، واحدة!. أصبح بوب مارلي جزءً من ثقافة العالم أجمع، سابحاً بجسده الراقص داخل كلّ التيارات التي تُشكِّلُ مصائر الشعوب. ورغم تغلغله في نسيج الثقافة السودانيّة، ومُتعة الجميع به، إلا أن بَصْمَتَهُ الأفريقيّة، عندما تطفحُ على جَسَدِ أحدٍ من العابرين، تُرفَضُ، ليس كراهيّة في بوب مارلي، وإنما لسَجنِ كلّ ما هو أفريقيّ داخل صندوقٍ ضال. إن البديهة الأولى التي تتبادر إلى أذهان المارّة، عندما يرون شَعراً مضفوراً، هي المخدرات!.
لقد مَنَحَ بوب مارلي هُويَّة جديدةً للعالم.
(3)
غيَّر المُكيّف تاريخ العالم! أعني مُكيِّف الهواء، مُغيّر الأجواء والأمزجة، وما أقوله ليس مزحةً وإنما إشارةٌ إلى مُغيِّرٍ سريٍّ عميق!. عندما تحدثت عن ذلك الذي فُصلَ عن واقعه بانتشاء جلده بهواءٍ آخر مُغاير، تماماً، لهواء البلاد التي يعيش فيها، عمَّمتُ، وللتعميم أسباب وتفاصيل. ركبت باصاً كبيراً مُتوجِّهاً إلى مدينة عطبرة، الأسبوع الماضي، وخلال هذه الرحلات عادةً ما أكون في حالة انحسارٍ دائمةٍ وغيظٍ وبعضُ نَدَمٍ؛ إذ ترى، على طول الطريق، جماعات من البشر لا أظنّ بأنهم قد حُسبوا أو بُلِّغوا بما يدور في بلادهم، إلا أنهم، وبذات القدر من اللامبالاة المنصبّة عليهم، لم ينتظروا شفَقَة أحد، وعاشوا بكلّ ما أتاحته الحياة لهم، بل هم، في الغالب، يحملون خيامهم وأمتعتهم في اللحظةِ التي يرون فيها أعمدة كهرباءٍ تتوجَّه نحوهم، فما تعنيه الأعمدة: شرطة، حكومة، قيود، قوانين، وهذه لن تحطّ عليهم لتمنحهم أية امتيازاتٍ أخرى سوى السيطرة على حيواتهم. آخرون يعملون في قرىً صغيرة مترامية على الصحراء في انتظار الكهرباء والماء، حتّى يومنا هذا، وقد التقطت تعليقاً ساخراً من أحد سكّان هذه المناطق وهو يحدّق في أعمدة الكهرباء مغتاظاً: \"الكهربا في العالم من سنة شُختُميَّة، يا داب جايبّنها لينا الليلة؟!\". إن الذي يُذهل الناظر هو التفكير البسيط في الحياة اليوميّة لامرأةٍ تسير في صحراء لا ظلّ فيها لأيّ شيءٍ سوى لثوبها، وحماران يتبعان خطاها بهدوء: ما هو شكلُ تاريخ هذه المرأة، ما الذي يعنيه التاريخ بالنسبة إليها؟! وهل ستخرج علينا واحدة منهنّ لتسرد ولو يوماً واحداً من أيامهنّ؟ كيف يتكوَّن الحدث هناك؟ هل ينتمون إلينا وهل نحن نعرفهم أو ننتمي إليهم؟!.
حللت ضيفاً على أصدقاءٍ فقراء، كحالنا، إلا أن عملهم يُوفّر لهم سيارات مُكيّفة ومريحة وسريعة، ليموزينات آخر موديلات، إذ أنهم يسافرون يوميّاً إلى أطراف القرى والصحارى لمتابعة سير عمل شبكات الاتصالات. إلا أنهم لم ينفصلوا عن واقعهم، بل أنهم كشفوا لي، وبطريقةٍ جديدةٍ، الكيفيّة التي يتصاعد بها الفقر والفصل القاسي الذي يُحدثه المُكيِّف. غواية المُكيِّف! يالها من كلمة، إذ هي المسؤولة المباشرة عن الضحك المنفجر داخل السيارات بينما الواقع من حولها يغلي! لا أريد، بتاتاً، أن أحرم الناس من الهواء البارد، بل أن أقول بأن الهواء البارد يُخلِّصُ المرء من عناء التفكير في الحرّ، وهل تدرون حجم الحيِّز الذي يشغله التفكير في الحرّ؟ لا أعني بالنسبة للسودانيين، وإنما بالنسبة لقاطني المُدن فقط فبزواله يتهيَّأ لك أن تُفكِّر فيما حولك بهدوء، وذلك، بالضبط، ما بثّه فيَّ أصدقائي الذين قضيت معهم ثلاثة أيامٍ في عطبرة، إذ أنهم يُدركون أن الإجازة تعني انتهاء البرودة؛ فهم ذات الأشخاص الذين تلتقيهم في المواصلات العامَّة، حيثُ تُصبحُ الشمس رسَّامةً تجريديَّةً تضرب بفرشاتها الحارّة، بالعَرَق، على ظهور المواطنين خالقةً خرائط لا تنتهي لعوالم لا تخطر على بال؛ تراها في الوجوه، وفي رعشات الأيدي الهَرِمَة، في الكدمات الجسديّة الناطقة بماضٍ وحاضرٍ ومستقبلٍ لن تُدركه، ترسم الشجارات اليوميّة، وتَدلقُ يأساً على جبهةِ امرأةٍ تجلس بين الحافلات، في الموقف، طوال اليوم، وطيلة سنواتٍ لا تنتهي، لتبيع الشاي وتُكنس عند أوّل قمَّةٍ أفريقيّة.
الأغنام يملأن مدينة عطبرة، والقرى الطرفيّة تعجّ بهنَّ.
في كلِّ مرةٍ نمرُّ ببيتٍ مُعيَّنٍ لا تبدو عليه سيماء المدينة، تقف أمامه سيّارة فارهة بمكيّفٍ خطير، وتدخل فتيات جميلات يُشبهن عائلات الأحياء الراقية في الخرطوم، يلتفت صديقي حتّى يكاد يفتل رقبته ويقول: (العائلة دي مجنِّناني جِنّ)، ويحدث ذلك في كلّ مرةٍ، وقد أطلقوا عليها اسم (العائلة الرياضيّة) نسبة لحيّ الرياض بالخرطوم!.
في طريقنا لمدينة بربر، سألتهم عن الأغنام، فقال أحدهم أن الأغنام الكثيرة علامةُ الفقر! مُبرِّراً ذلك بأن قاطني المكان، المكتظّ بالأغتنام، لا يملكون حتَّى ثمن اللبن. يعلّق ساخراً \"سيد اللبن هنا يائس جدَّاًَ\". وعندما مررنا ببيت العائلة الرياضيّة مرة أخرى نَطَقَ صديقنا بذات الجملة، فردّ عليه الآخر: (إن كنت مُتشوّقاً للتعرف على هذه العائلة، فعليك أن تعمل بائعاً للبن)!.
فاق الفقرُ حدّه، إلا أنّه فاق، في تخفِّيه، كلّ الحدود؛ وعندما أقول أنه أصبح خفيَّاً فإنني أعني أن وضوحه اشتدَّ حتَّى أصبح عاديَّاً، فكل ما حوله يُعين العين على العماء؛ إن الانتقال من عطبرة القديمة، منازل السكّة حديد، إلى الجهة الأخرى عبر جسرٍ يُغيِّر المناخ نهائيّاً، والأدهى أن الجسر لا يصل ضفّتين فصلهما نهرٌ، وإنما سكّة حديديّة حزينة كحزن قاطراتها، فتستطيع أن تسمع القاطرات تتحدّث، وجوهها، ملامح وجوهها تُحنِّن، وتطفر دموعها عبر شعار سكك حديد السودان المطبوع على خدودها، ممسوحاً مسحاً قاسياً بتاريخٍ كاملٍ من الاقتلاع. حتّى العشاق استكانوا مختبئين داخل الركشات في القيظ ينتظرون \"بيتزا\" بائرة قرب الكُبري ولا مكان يقصدونه، فقد تمّ احتلال النيل، الذي وُهِبَ للإنسان، النّيل الواحد ده، أصبح ملكاً لأناسٍ غامضين تماماً، لا تدرك وجودهم مثلما لا تُدرك وجود الفقر نفسه، فهو ليس مجرَّد نظام سياسيّ وإنما شبكة هائلة من الشركات قاطعة نَفَس القطار؛ يقطع نَفسَك يا القطار!.
(4)
هكذا يبدو الأمر بالنسبة إليّ، في تاريخ ثقافتنا، أن تكون بائعاً للبن في المكان الذي يَخسرُ فيه بائع اللبن. دعوني أتجاسر وأقول بأن تاريخ السودان يبدو وكأنه سلسلةٌ من الإستعمارات ذات الوجوه المختلفة، فالهويّة كنزٌ هنا، بابٌ يُدخلك إلى غريزة التاجر الداخليّة فيك من أوسع أبوابها. لقد ظلَّت اتفاقيّة البقط مثار احتفاءٍ وفخرٍ بالنسبة لنا، ونحن صغار في المدرسة الابتدائيّة، حتّى بالنسبة إلى الجنوبيين الذين أسلموا ولا زالت عوائلهم المسيحيّة ترزح تحت نِير الحرب، يشبه ذلك، كثيراً، مفارقة انتماء قبطيٍّ أو مسيحيٍّ إلى الجبهة القوميّة \"الإسلاميّة\"! دعونا من الاختلافات الدينية، ولنتذكَّر أن الذين استعبدوا وفقاً للاتفاقيّة كانوا، من الممكن، أن يكونوا أجدادنا، بينما تحوَّلت النساء الباقيات، من بعدهم، جدّاتٍ لنا، جدّاتٌ محذوفاتٌ من سجل التاريخ، ليحلّ، بصورةٍ غير منطقيّةٍ، دمُ الأب. أخبروني، وبالمنطق البسيط، كيف يُنسب دمُ الابن لأبيه إن كان الابن تكوَّن، يوماً بعد يومٍ، داخل رحم أمَّه، أخذَ دمَهُ كلّه منها، وكوّن لحمه من لحمها، جلده تشرَّب أنفاسها وضربات قلبه تشابكت، كغابةٍ تنمو إلى الأبد، بضربات قلبها؟!. إن الأمر، في النهاية، يعود إلى الدين؛ إذ قامت الأقليّة (العرب) بغزو حيِّزٍ كبيرٍ من العالم لنشر الإسلام، إلا أن الأمر في حقيقته كان نشراً للثقافة العربيّة، في الأساس، وليست الثقافة العربيّة كما عهدها سكّان الجزيرة العربية، وإنما الثقافة التي رفدتها الإثنيات والثقافات في جميع الدول التي انتشر الإسلام فيها، إلا أنهم أقنعوهم، بطريقةٍ مُريبةٍ، أن الذي أُنتج كان ثقافةً عربيّة! قلت في مقالٍ سابق أن التسمية الأصدق هي \"ثقافة إسلامية\" فلا وجود للعربيّة هنا إلا في حيِّز اللغة التي سيطرت لنزول القرآن بصِيَغها، لا أقل ولا أكثر، وقد تساءل الفيلسوف السوري علي حرب عن السبب الذي دفع بجميع هذه الشعوب لأن تسمي ثقافاتها على الجزء أي الثقافة العربية في حال أنهم، جميعهم، وبكل إسهاماتهم في الحضارة الإسلاميّة، لم يكونوا عَرَباً!.
في مؤتمرٍ صحفيٍّ مدوٍّ بعنوان (مدى اتساق التنوع الوراثي الوطني مع جغرافية وتاريخ السودان) عقد بقاعة محمد عبد الحي شهر مارس من العام 2009م أُثبتت عمليّاً البديهة التالية: (لا وجود لنقاءٍ عرقيٍّ في السودان) إلا أن إثبات البديهيّات علميّاً لن يُزيلها لأنها ارتبطت، وببساطةٍ، بمصالح اقتصاديّة عميقة، فإن ارتبطت تسمية الشمس قمراً بمصالح اقتصاديّة لرَفَضَ العالم تسميتها شمساً إلى أبد الآبدين! أُثبت علمياً، كذلك، أن نسبة الدم الإفريقي الأنثوي في عروق السودانيين هو 85%. ولكن، ولأنهم لن يتنازلوا عن سلطاتهم الباقرة لحياة نساء السودان فإن هذه النسبة تعتبر مسخرةً لأنها نسائيّة. تأملوا النتائج التالية من المؤتمر الصحفي الذي رصدته شخصياًَ بصالح صحيفة (الأحداث)*:
(نتائج الكروموسوم الذكري وضََّحت الآتي: الدينكا والشلك والنوير يمتلكون صفات وراثية تعود إلى أصل الإنسان. أما الفولاني اتضح أنهم يحملون مورثات أوربية وهجرات قديمة أفريقية، ويحتفظون بمورثات أوربية وآسيوية. أما الجعلية والمسيرية والعركيين والأقباط، ينتمون لأصول آسيوية أوربية كنتاج لهجرة عكسية من تلك المناطق إلى إفريقيا. تتفق معهم في ذلك قبائل البرقو، والفور، والمساليت.
القبائل العربية، باستثناء النوبة، اكتسبوا المورثات التي أتى بها العرب والأقباط من شمال إفريقيا إلى شمال السودان. هذا الوضع حدث للبجة؛ فقدوا مورثاتهم لصالح القبائل العربية، ولا زالو يحتفظون بالمورثات الأفريقية. أما تحليل المايتوكوندريال الأنثوي، فلم يكن هنالك توافق بين اللغة والجغرافيا والتركيبة الوراثية ونتائجه كالآتي: توجد علاقة وثيقة بين النوبيين في الشمال مع الشلك والفور والبرقو. كما أن هنالك علاقة قوية ما بين المسيرية والدينكا. كما وضَّح التحليل علاقةً بين العركيين والنوير.
وأكدت الدراسة أن المجموعات النيلية الصحرواية هي مجموعات أصيلة في السودان، نشأت في وادي النيل، امتدت إلى شمال السودان (النوبيين)، وإلى غرب السودان (المساليت والفور) ومجموعة امتدت إلى جنوب السودان، وامتدت إلى جنوب مصر.
بالنسبة للعرب والأقباط، يبدو أن الدراسة وضحت طريقين لوصول العرب للسودان: عن طريق شمال الوادي مروراً بالنوبيين في السودان وانتشاراً في وادي النيل. وهذه المجموعات افتقدت عاداتها الرعوية واكتسبت السلوك الزراعي. أما الطريق الثاني من شمال إفريقيا، ومن ثم إلى غرب السودان (المسيرية)، هذه القبائل لم تمر بالنيل.
أما الاتجاه لثالث، فلا يوجد ما يثبت صحته، إن لم يكن هنالك ما ينفيه، وهو الهجرات المباشرة من الجزيرة العربية عبر البحر الأحمر إلى السودان. كما أثبت التحليل أن الهوسا يمتلكون موروثات أوربية آسيوية، ارتحلو من آسيا وأوربا، واستوطنوا في غرب إفريقيا، ومجموعات صغيرة منهم جاءت إلى السودان. كذلك قبيلة الفولاني.
أما قبيلة البجا، فقد استوطنوا في البداية في شرق إفريقيا، وأثبتت الدراسة أن لهم علاقة بالطوارق والبربر في شمال إفريقيا، وهذه العلاقة ليست مفهومة لهم بشكل واضح. فالبجا يتحدثون اللغة الكوشية، وهي ذات لغة الطوارق، هنالك علاقة لكنهم لا يستطيعون أن يصنفوها بشكل دقيق. كما يؤكد تحليل المايتوكوندريا أن الجينات الوراثية الإفريقية في القبائل العربية تساوي 84%، وتتضح العلاقة ما بين الجعليين والبجة والقبائل النيلية الصحراوية، وما بين العركيين والنوير والمسيرية والدينكا. يذكر الدكتور هشام أن هذا البحث تم بالتعاون مع المعمل القومي المركزي بجنوب إفريقيا وأمريكا ومعهد الأمراض المتوطنة بالسودان).
نواصل
هامش:
* عُقد المؤتمر بقاعة الدكتور محمد عبد الحي بالمتحف الطبيعي جامعة الخرطوم بتنظيمٍ من مؤسسة طِيبة برس الإعلامية، مقدّم البحث الدكتور هشام يوسف حسن، ترأس الجلسة البروفيسور محمد علي الشيخ، مدير جامعة الخرطوم. والتي اشترك في تقديمها كل من الأكاديمية السودانية الوطنية للعلوم، ومعهد الأمراض المتوطنة جامعة الخرطوم تحت عنوان (مدى اتساق التنوع الوراثي الوطني مع جغرافية وتاريخ السودان)، والذي يُعتبر تمهيداً لنشر الدراسة العلمية بصورة كاملة. قدم لها البروفيسور منتصر الطيب إبراهيم.
الاخبار


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.