تحدثنا في حلقة أولى حول ما ذكره الأستاذ محمد حسنين هيكل في (ساعة مع هيكل.. تجربة حياة) برنامجه الأسبوعي بقناة الجزيرة متطرقا لأحداث الجزيرة أبا وودنوباوي، وفي الحلقة الثانية ذكرنا تفاصيل ما دار بأبا، واليوم نناقش مسألة الدور المصري في قصف أبا، ثم نتطرق لأوجاع حول التاريخ للمجازر والوثائق والأدبيات التي خلفتها. الإضافة الجديدة لهيكل في ساعته إياها أن مصر لم تشترك في القصف برغم إرسالها نائب الرئيس وقادة من سلاح الطيران. وقد عزا ذلك للنصيحة التي قدمها للرئيس جمال عبد الناصر وأسهب في التعريف بالانفتاح الناصري والمؤسسية التي تحكم عملية اتخاذ القرار لدى ذلك الزعيم ومنها مصادر المعلومات والتقارير، فساعة هيكل هي في حقيقيتها (مغسلة) أسبوعية للتاريخ الناصري – الذي لم يخل من فجائع- مع بهارات ببطولات هيكلية، والحق ليس على هيكل الذي نجح بحياة عبد الناصر أن يحيل الهزيمة الفاجعة والفاجغة في 1967م إلى مجرد نكسة) تخفيفا لحدتها وابتلع الإعلام ومن بعده التاريخ الطعم، ولكن الحق على \"قناة الجزيرة\" أن تعطي رواد التزوير الإعلامي مثل هذا العزف المنفرد ليعزفوا على ناي التلبيس والتدليس! الحجة التي ساقها هيكل في عدم التدخل بالقصف هي أن اشتراك مصر في القصف ضد الشعب في تلك المناطق الحساسة من حوض النيل سيخلق لها مرارة، وقد ساق هيكل ذلك الحديث برأينا بسبب حادثة آنية متعلقة بالجدل الدائر حول مياه النيل الآن، على إثر توقيع ستة من دول حوض النيل لاتفاقية إطارية في مايو الماضي بمعزل عن مصر والسودان، والتدخل العسكري الذي هدد به البعض داخل مصر، وهذا هو مربط الفرس في ساعة هيكل المذكورة، لأنه طفق بعدها يحذر من ضرورة الحذر في التعامل المصري مع هذه المناطق. وفي الحقيقة فإن مطلب هيكل الآني أو نصحه مشروع ومطلوب، ولكن الطريقة التي ساقه بها لم تفلح في إيصال النصح على الأقل للشعب السوداني بقدر ما هي أثارت الحفائظ. لماذا؟ ليس لأن اشتراك الطيران المصري في الجزيرة أبا هي مما أشار له كثيرون، وصار معلوما بالضرورة حول أحداث أبا، مثلا قال السيد محمد أحمد محجوب آخر رئيس وزراء قبل مايو 1969 في كتابه \"الديمقراطية في الميزان\" وهو يتحدث عما قام به نظام مايو أول أمره (في 27 آذار أمر طائرات الميغ بقصف الجزيرة بالصواريخ، وفي ذلك الوقت لم يكن السودان يملك طائرات ميغ ولا طيارين يستطيعون قيادتها. مما جعل الكثيرين مقتنعين بأن القصف جرى بطائرات مصرية وطيارين مصريين. وجاء بيان صادر من وزارة الخارجية الليبية في وقت لاحق ليؤكد هذا الاقتناع) (ص 261)، هذا علاوة على ما جاء ضمنا في تاريخ البادي للأحداث. نعم ليس نفي هذه الحقيقة هو سبب الضجة، فقد ذهب مذهب هيكل قبله آخرون أمثال السيد محجوب برير في كتابه (مواقف على درب الزمان)، والدكتور الصادق الهادي وأخوه الأكبر نصر الدين، فهي مسألة وارد فيها الخلاف وينتظر أن تترك للمؤرخين الموضوعيين ليستعينوا بالوثائق والإفادات من صناع الحدث.. المثير برأينا لم يكن الحديث عن عدم اشتراك مصر بالقصف ولكن الطريقة التي رواها بها هيكل ناسبا لنفسه تلك البطولات وذاكرا منطق عدم المشاركة في القصف بالحساسيات في مناطق حوض النيل. ثم ما تلاه من كذب مفضوح حول مقتل الإمام الشهيد. إذا كانت مصر الرسمية لم تذهب أبدا لنفي مشاركتها بالسبب المذكور وهو سبب لو وجد لحق أن يذاع (أي ضرورة عدم مشاركة دولة في قهر شعب آخر) بل إن ميثاق طرابلس الذي وقع بين كل من السودان ومصر وليبيا في 1969م نص على الدفاع المشترك بين تلك الدول الثلاث في حالة التعرض لغزو أجنبي أو لخطر داخلي. مما يوحي بأن الإحجام عن القصف لو تم فسيبنى على حسابات الجدوى العسكرية فقط، وليس خطل مناصرة النظام ضد قطاع شعبي هو في النهاية (خطر داخلي)، ولا شك أن الجزيرة أبا لم تكن ترق كخطر داهم فهي منطقة يسهل عزلها وحصارها ولم تتهيأ لها سبل الاستعداد العسكري الذي يقيم أنفاس الدول! وبرغم ذلك فقد دكت بطيران ومدفعية ثقيلة ضربت بها سرايا الإمام، وجامع الكون، وبيوت المدنيين، ومزارعهم! إن ذلك الاشتراك سواء جرى أم لم يجر كان تحصيل حاصل بسبب ميثاق طرابلس والمحور الشرقي الذي تم ضمنه، والشعب الذي دك في أبا كان يعلم أن قاتله هو الاستبداد بالرأي والإقصاء المايوي، وقد تعامل الأنصار مع ليبيا القذافي بعدها وتعاونوا، كما فتحوا صدورهم لمصر ولجأوا إليها حينما ضاقت بهم بلادهم، وحتى حينما أبدى المايويون أنفسهم ميلا للحوار جلسوا معهم، لأنه كما قال الإمام المهدي عليه السلام: \"الفش غبينته خرب مدينته\"، وكما أوصى الإمام الصديق في فراش الموت: (إننا لا نكن عداء خاصاً لأحد وليس لنا مطلب خاص وإن مطلبنا هو مطلب البلاد قاطبة في أن تحكم بالشورى والديمقراطية وأن يعطى الناس الحريات الأساسية فاحرصوا على تحقيق هذه المطالب مهما كلفكم الحرص). فالدماء التي سالت منا في الجزيرة أبا مبذولة لله وللوطن عربونا لرفعة رايتهما لا خصومة معلقة في وجه الزمان! صحيح إن الدعوة لمقاضاة مجرمي الحرب الذين ارتكبوا المجازر يجب ألا تموت، والدعوة لتوثيق فظاعتها يجب أن تبلغ غاياتها، ولكن الحقيقة حولها ينبغي أن تصير دروسا للمستقبل وعبر، فلا تضيع ضمن المساومات حول الحاضر أو الإرضاءات والتطمينات حوله. الأخوة في مصر يجب ألا يعتقدوا أن الحقيقة حول ما جرى هي جزء من صفقات الحاضر والمستقبل، فتلك أمة قد خلت، لا السودان مسئول عما جنت مايو، ولا مصر مسئولة عما فعلت الناصرية، ولا شعوب حوض النيل ملك لمواقف الحكام. نظرة للتاريخ وللوثائق وحينما نذكر الوثائق الخاصة بأبا فإننا لا ننسى أن نشيد بالجهد التوثيقي الضخم الذي قام به الأستاذ صديق البادي في كتابه (أحداث الجزيرة أبا وودنوباوي) فقد حاول فيه حكاية تلك الأحداث الموجعة بدم بارد واستعان بالمؤرخين الشفاهيين وأنت تدهش فعلا للذواكر القوية الحية لتلك الأحداث التي تعد قديمة بمر العقود. ولكنه حينما جاء للوثائق لم يجد سوى وثائق الذين دكوا أبا دكا. إن أكبر ما تثيره مجازر أبا الآن ليس مواقف الرسميين وأعمالهم التي جاءت ضمن خطة قهرية جربتها المنطقة من شرقيها لغربيها ومن سافلها لصعيدها، ولكن ظلم التاريخ، الظلم البائن الذي تراه حينما تجيل النظر بين الوثائق التي خلفتها الأحداث.. إن وثائق أبا المخلفة مرة، لم تكتف بدفن الآلاف ودك ديارهم، بل بتشويه صورتهم. الصحف اندرجت في مواويل الغثاء المشروخ، تحول الضحية لجلاد، وتحول الشهيد لبغي، وتحول النبل لخيانة، والخيانة لبطولة، والبسالة لخور.. أنت إن قرأت ما جمعه البادي من أقوال وما أورده من بيانات لا بد باك أو مجروح.. كلهم قتلوا الشهداء بعد الدفن معنويا. مثلا، كنت تقرأ ما نشر للأستاذ إدريس حسن بصحيفة الأيام بعد ثلاثة أيام من المجزرة (3/4/1970) حيث وصف الأحداث وقال إنهم دخلوا الجزيرة حينما كانت الشمس تميل للمغيب وفي مؤخرة الأذهان عشرات الأسئلة التي بددتها زيارتهم قال: (ليس هناك آثار لدمار أو خراب وليس هناك بقايا لآثار معارك عنيفة فإن قوات الأمن لم تستعمل إلا أقل قدر من العنف وهي تستولي على الجزيرة، المنازل قائمة في أماكنها، المواطنون الذين لم يشتركوا في المؤامرة يعيشون حياتهم العادية في بيوتهم ويتجولون في قراهم) (البادي ص 104) وكان إدريس قد زار الجزيرة أبا ضمن وفد الصحفيين مباشرة بعد القصف، ولكنك الآن تسمعه يقول بقناة النيل الأزرق (ببرنامج حتى تكتمل الصورة في 14/6) وفي عينيه نظرة التكفير إنهم حينما ذهبوا لزيارة أبا حجزوهم خارجها ساعات طويلة ولم يسمحوا لهم بالدخول في الحال، وأنه حينما استفسر بعدها بزمان من أحد الضباط المسئولين (التاج حمد) حول سبب ذلك التأخير قال له: كنا مشغولين بدفن الناس بالجرافات وقد كانت أعدادهم مهولة، وما كنا نريدكم أن تشهدوا ذلك المنظر (البشع.. وهذه إضافة مني!) يجب أن ينضم للأستاذ إدريس حسن الآخرون، لا نطلبهم اعتذارا فقط استدراكا كاستدراكه! يجب أن يُكتب تاريخا جديدا للأحداث، تاريخا حينما يورد قصائد الأستاذ الزين عباس عمارة: بارك مولانا غضب الثورة حين تصدت للجلاد من حمل المدفع باسم الدين أثار الفتنة والأحقاد أو قصيدة الأستاذ عثمان خالد (أنصاري مطرود من الجنة): كنا نباع نستذل بالخديعة أرواحنا كانت لدى أطماعكم وديعة وكنت يا سيدي الكبير تبيعنا الجناة بالحياة! أو قصيدة الأستاذ كمال الجزولي (دفاتر حب لمايو): ها أنت تعود إذن يا سيدنا حسنا!! ذلك آخر ما في جعبتنا أن نقتل أصبح أسهل من إلقاء تحية أن نطلق في الرأس رصاصة أن نغرز في الصدر الخنجر أن نشنق أن نخنق أن نبتر أن نمسح حد السيف بحد اللحية أصبح يا سيدنا أسهل من إلقاء تحية! حينما يورد تلك الأدبيات متعلقة بأبا وهي واردة في كتاب البادي (قصيدة الجزولي ورادة أيضا في كتاب محمد أحمد كرار: سنة أولى مايو، مربوطة بأبا، ولكن البادي يقول إنه زار الجزولي وعلم أنه كتب القصيدة لمايو بعد لقائه بالنميري بروسيا ثم إنه تحول لمعارض لمايو واعتقل في معتقلاتها).. الشاهد، حينما ترد تلك القصائد في أي تاريخ للأحداث يجب أن ترد إلى جانبها قصيدة المرحوم الفضل عبد الحميد في رثاء الإمام الشهيد، وفيها: يا ابنة النيلين ويحك أذكري فضل الرجال العاملين وقدري وتناولي كف الإمام وقبلي كفا فدتك من الخطوب الغبر كفا وفتك الذل من كيد العدا وعقوق بعض من بنيك الفجر إن نام ناس إن عينك لم تنم عن مجد قومك بالعيون السهّر وهي القصيدة التي قال البادي في كتابه إنه بحث عنها فلم يجدها.. وليورد التاريخ قصيدة المرحوم مختار محمد مختار: يا رب أما لليل غد والظلم أليس له أمد تاهت بالظلمة أعيننا فكأن نهايتها الأبد قتلوا حفاظ القرآن وصلوهم وابل نيران قدر مشئوم قد ساقك تحكمنا يا جعفر جوع وفرار باسمك قد ذهبا باليابس والأخضر ولا نجدها مكتوبة أو مذكورة في أي مكان.. ترى هل هناك من لا يزال يحفظها؟ ترى أهكذا نحن وأقوالنا وأشعارنا دائما سقط في ذاكرة التاريخ، وتدوّن أقوال وأشعار صائدينا؟ وهل سنظل دوما بلا لسان؟ فُقَرَا، وفُلْسَان! نواصل بإذن الله. وليبق ما بيننا الاحداث