بسم الله الرحمن الرحيم مبادرة الوفاق الوطني هل تكون مؤتمراً قومياً جامعا؟. بقلم /خليفة السمري المحامي. [email protected] نحمد للساسة وأهل السياسة تنبههم أخيراً إلى أن العزف المنفرد مهما كان مبدعاً،فإنه لا ينتج سيمفونية خلاص لوطنٍ أقعدته الكروب،ودهته صروفنا نحن، لا صروف الدهر ،و أرهقته عادياتنا ،لا عاديات الحدثان،فالجراح المفتوقة في الحقيقة نحن من فتقها،ونحن من زاد فتقها اتساعاً ،لا الأجنبي الذي أدخلناه بأنفسنا في شأننا،ثم من بعد ذلك جعلناه شماعة نعلق عليها فشلنا في إدارة البلاد ،فقد جرت سنة الله أن الأباعد لا يتدخلون في شؤون الأقارب،إلا إذا تناجوا إليهم بالشكوى،ولا سبيل لهم عليهم ما لم يروا منهم الضعف والذل والخنوع. لقد ظللنا منذ الاستقلال نتشاكس،ونتعارك في غير معترك ،فالتشكيك في الوطنية، كان للأسف دأبنا الذي نواجه به من لا يرى رأينا، والانتصار للذات كان دوماً حاضراً في خصوماتنا السياسية،وصراع الكسب السياسي الآني ظل على طول الخط حادينا إلى التشاحن والتباغض الذي فت في عضد بلدٍ كان مغنيها في سالفات الأيام يشدو ويترنم ب \" يا غريب يالله لي بلدك \" ، واليوم أصبح أمرها بواراً \"تتحشر فيه \" حتى بغاث الدول،ناهيك عن صقورها ونسورها،كل ذلك تم بسبب دعاوى الشوفينية التي وسمت قياداتنا السياسية من يوم الاستقلال إلى يوم الناس هذا،وكأني بحواء السودانية أبت أن تجود علينا برجلٍ رشيد،فهاهو الحال وصل بنا إلى حد تقطيع الأوصال،دعك من الفقر والمرض والتخلف ، ورحم الله العباسي يوم أن قال في يوم التعليم \" لو درى القوم في السودان أين هم من الشعوب لقضوا أسفاً وإحراقا\"، فكيف لا نقضي أسفاً وبلاد السودان ذات الثروات البكر، والعيون الجارية ،والأراضي الخصبة -التي لا تدانيها سوى أراضي استراليا وكندا- ظلت تسعى إلى المجد ،كما قال الأستاذ محمد توفيق عليه رحمة الله في دائرة، دائرة للأسف محيطها الفشل ومركزها الإقصاء والشوفونية البغيضة. ولكن مع كل هذه العدمية التشاؤمية تظل هناك بارقة أمل ،فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، وكما قال الشابي :إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد للقيد أن ينكسر، فقد طالعتنا الصحافة السودانية قبل أيام بأخبارٍ تحمل شيئاً من البشارة في زمنٍ ادلهمت فيه على البلد الخطوب،وتلوح ببعضٍ من الفال في وقتٍ تأزمت فيه على الوطن الشدائد، طالعتنا صحافتنا السودانية بأن السيد رئيس الجمهورية دعى إلى مبادرة وفاق وطني تجمع كل القوى السياسية السودانية،صغيرها قبل كبيرها،والمسالم منها قبل من حمل السلاح، ولو صدقت النوايا فإن مثل هذه المبادرة يمكن تطويرها لتصبح ذلك المؤتمر القومي الدستوري الجامع الذي حلم به الجميع،لمناقشة كافة مشكلات البلاد،والخروج برؤية اتفاقية لإدارة شؤونها،وتسيير دفة العمل السياسي فيها،على نحوٍ يجنبها المخاطر،ويبعد عنها شبح التفتت والحروب. وفي هذا الصدد،أقول إنه لحالم،وغارق في الأوهام حد الهذيان،من يعتقد أن في مكنته بمفرده كتابة الفصل الأخير في تاريخ السودان،مهما أؤتي من الإمكانيات والقدرات،فالتركيبة الفسيفسائية تؤكد حضورها في أي طبخة ذات مذاق، وإلا فقدت مذاقها،وصعب ازدرادها على وطنٍ عضه الفقر ودهته النائبات ،لا بل سكنت بطنه الأدواء واعتراه النحول،ولا علاج من كل ذلك إلا بالبلغة التي تقيم الأود،وتذهب الضعف والوهن، فغذاء الأوطان دوماً في توافق أهلها،مع تبادل الاعتراف والاحترام، وتنفسها أبداً في إيجاد القواسم المشتركة،التي لا تلغي خصوصية الكيانات،ولا تصادر الحق في الاختلاف ،وبغير هذا فإنه لا طاقة لنا بالطوفان ،ولنا في تجارب الآخرين عبرة،وفي مآسي من سبقونا إلى التفتت والتشرذم عظة،فالعنف إذا اشتعلت ناره فإنها لا تمايز بين عدوٍ وصديق،هذا إذا علمنا أن فتيل العنف هو الإقصاء، وباروده عدم الاعتراف بالآخر، فإن أردنا أن يستقيم أمرنا،وتنصلح أحوالنا،فلا بد من صدق النوايا،وإتباع ذلك بالعمل الصدوق،فأملنا في الله كبير بأن لا يكون الأمر أمر ترجيحات سياسة آنية،وموازنات مصالح تكتيكية ،ثم \"تعود حليمة لعادتها القديمة\"، فقد أثبتت التجربة أن المنهجية السياسية التكتيكية تؤدي إلى تراكم البارود في برميل الوعود الكواذب، الذي لا بد أن يضيق يوماً فيقع البنغ بونغ،ذلك الانفجار الذي نعيذ الله أن يَهْلَك به الجميع ،فالمرحلة التي تمر بها البلاد في هذه الأيام هي بالجد مرحلة خطر،لا يمكن تداركه إلا باعتراف الكل بالكل،بدلاً من صراع الكل ضد الكل، ففي تيموس هيجل كل إنسان وكل كيان وكل عرقٍ وقبيل يبحث عن ذاته ، ولن تشبع رغبة البحث هذه،ولن يتوقف الصراع إلا بنيل هذه الغاية ،التي أصلاً لن تنال،ولن تشبع إلا بالاعتراف المتبادل،واحترام الذات والآخر في آنٍ واحد ،ومن قرأ التاريخ بنظرٍ فاحص وناقد،لا بد أن يقر بهذه الحقيقة الموضوعية،لذلك ينبغي أن تتضافر جهود الجميع،جنوباً وشمالاً،يميناً ويساراً للمساهمة في وضع التصور الذي به تدرك البلاد نجاتها، وينبغي على من بأيديهم السلطة أن يتحلوا بالإرادة التي تجعل المشاركة في هذا المحفل فاعلة،لا مجرد حلية بها يتزينون أمام الأباعد والأغراب،فالزينة لا تغير أمراً في جوهر الأشياء،ولا تبدل حقائق الوجود،ولنا في مؤتمراتٍ سابقات انطلقت في بداية دولة الإنقاذ خير عظة وخير منذر ينبهنا ويحذرنا من التورط فيما لا ينفع ولا يشفع ،خاصةً وأننا في مرحلة حساسة لا تحتمل التلاعب بالألفاظ،ولا التبشير بالشعارات،فليكن الأمر فعلاً أمر جد،ولا شك أن الشعب سيقف مقدراً لموقف رئيسه الذي دعا إلى هذا المؤتمر الجامع ،وسيكون مقدرا أيضاً لمواقف زعيمي الأمة والاتحادي اللذان يحمد لهما تناسي الخلافات التي ولدتها الانتخابات الأخيرة،ويحمد لهما كذلك استجابتهما بغير تردد للدعوة الراشدة،التي إن صدقت النوايا على الأقل فإنها تجنب البلاد ويلات الحروب، والأمل كبير جداً بأن تلحق كل القوى السياسية الأخرى،خاصة الحركة الشعبية بركب هذا المؤتمر التوافقي،للخروج برؤى وتوصيات تضمن وحدة البلاد ،أو على الأقل تضمن وقوع انفصال سلس،يجنبنا لعنة الحروب،هذا إذا كان قدرنا أن نقرا في بعض فصول تاريخنا الحديث عن قصة بلدين،كانا في سالف العصر والأوان يسميان دولة السودان. لكن نرجع ونقول،إن صدق النوايا بدون العمل الجاد،والإرادة المثابرة لن ينفع شيئاً ،ولن يجدي فتيلا،فلا بد من وضع الأدوات الجيدة،والآليات السديدة التي تمكن الجميع من المشاركة الفاعلة،وتضمن للكافة التعبير عن رؤاهم وحاجياتهم بصراحة لا تترك في النفوس ضيقاً ولا تململاً،ولا تغادر في الرماد مستصغراً لشرر، ولن يحصل ذلك،ولن يكون،إلا بالابتعاد عن فرض الوصايا والرؤى الوثوقية،التي تنظر إلى الحقيقة من وجهٍ واحد،ثم تدعي أنها صاحبة القول الفصل،والحق المطلق،الذي لا نسبية فيه،ولا منزلة بين المنزلتين، فما أوردنا موارد التهلكة إلا مثل هذه المزاعم والدعاوى الشوفينية التي يؤذيها نور الآخر وتستفزها أضواء الحوار بسبب تقوقعها في محارتها وإدمانها لعبادة الذات. وبصدد هذا اللقاء الجامع لنا في بعض القيادات التاريخية العالمية خير صوى بها نستدل سبل الرشاد، للوصول إلى حوار نابه ونقاشٍ هادف، دوننا في ذلك غاندي الذي قدم الروح تضحيةً وفدىً لإرساء أدب الاعتراف بالآخر،فهو لما حاصرته طائفته الهندوكية المتطرفة المنادية بإبعاد ذاكر حسين من رئاسة الوزارة بحجة أن الأغلبية هندوكية وليست مسلمة أبى ذلك، وقال رضيتم أم أبيتم فإني أبداً لن أميز بين مواطني الهند ودفع حياته ثمناً لقاء هذا الموقف النبيل،ولنا أيضاً في نيلسون مانديلا مثلاً سياسياً يحتذى حين طلق زوجته شريكة دربه النضالي ويني مانديلا بسبب تورطها في تعذيب خصوم سياسيين،طلقها بلا تردد وأدخل الخاص في العام في سابقةٍ تاريخية لم تعهدها الإنسانية ولم تعرفها محافل السياسة الموصومة دوماً بالقذارة والنتانة والكيد للخصوم، وكان بذلك خير قيادة يحتكم إليها خصومها من البيض قبل السود،وجنب بمثل هذا الموقف الفالح أهله ومواطنيه ويلات الحروب والاقتتال،متناسياً أذى سنوات طويلة من الحبس والسجن والتنكيل، فإن أرادت قياداتنا خلاصاً للبلاد،فلتكن مبادرة وفاقها الوطني على هذا النهج من الفلاح ،وإن ابتغت بذر الثقة في النفوس فلتنتصر للآخر قبل الانتصار لذاتها،وعندها ستحصد ثمراً دانياً من الأمن والرخاء والسلام،وها هي الأيام حبلى بكل جديد،فيا ترى هل ينطبق على المبادرة المطروحة قول طرفة بن العبد:نحن في المشتاة ندعو الجَفَلَى ..لا ترى الآدب فينا ينتقر؟، أم أن شأنها سيكون على نحو قول التغلبي : ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطيناً؟،هذا ما تحدث به الأيام القادمات،والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.