د. حيدر إبراهيم علي يدور نقاش عميق ورصين بين النخبة السودانية، خاصة فئاتها اليسارية، حول ورقة فكرية نشرها الأستاذ محمد بشير أحمد (أو عبدالعزيز حسين الصاوى كما يوقع كتاباته) ،تحت عنوان: معا نحو عصر تنوير سوداني - اطار عام لاستراتيجية معارضة مختلفة. وقد رفد محمد بشير أو الصاوي المكتبة السودانية والعربية بالكثير من الكتابات المتميزة ذات الافكار المتجددة والمتحدية للعقول المستريحة،وفي لغة خصبة ومقتصدة في نفس الوقت وناصعة تسر القارئ.والكاتب من رواد حزب البعث في السودان،ولكن الحزب لم يسلم من عقله النقدي.فقد قام هو وجادين ومجموعة من البعثيين المجددين، بسودنة وتجديد الحزب،بدءً من الإسم،فهو الآن:حزب البعث السوداني،وقد تأتي العربي بعد ذلك أو لا تأتي. وذهبوا ابعد من التسمية،لكي ينفخوا في الحزب كثيرا من افكار الدمقرطة والتنوع الثقافي التي كانت غائبة أو منزوية في البعث السابق.والكاتب متابع ومشارك جيد في تطورات السودان ومن هنا اكتسبت ورقته الاهتمام والمتابعة من الكثيرين،في الاعلام الورقي والإليكتروني المتداول بين السودانيين في كل الارجاء.ومن الواضح،من خلال متابعة المشاركات والتعقيبات،أن الانتلجنسيا السودانية هي الأكثر حيرة،رغم محاولاتها ادعاء الحكمة والصبر والصمت.فهي تعي مسؤوليتها عن الانفصال وانهيار الدولة القادم،لانها اصرت على تجريب مشروعات كبرى:اشتراكية،اسلامية،قومية ..الخ على واقع لا صلة له بكل هذه الافكار الطوبائية.وقبرت كل تلك الافكار أوتنكر لها اصحابها،وظل الواقع يتدهور ويفرض الازمة بلا رتوش.ولكن غالبا ما يبدو المثقفون السودانيون وكأنهم في محاولة تبرئة الذمة فقط.فاذا كانت ورقة محمد بشير على مستوى الفكر والتفاكر،فقد اعلن على مجمود حسنين قيام جبهة وطنية معارضة عريضة لمواجهة مهام المرحلة الراهنة.فهو ينشط ويتفاعل على مستوى العمل المباشر والحركة.وهذه علة سودانية،يمكن ان تدرج ضمن مسببات الفشل:فكر بلا حركة وحركة دون فكر،أو على الاقل نخبوية في الفكر مقابل حركة تستخف ب»المنظراتية»او «المثقفاتية». قدم الكاتب تشخيصا للأزمة السودانية لم يذهب أبعد مما هو متداول. فهناك شبه اجماع حول اسباب ومظاهر الأزمة ولكن المعضلة في كيفية الخروج منها. فقد اتفق الجميع على حقيقة فشل السودانيين في تأسيس ديمقراطية مستدامة تخاطب كل المشكلات والقضايا القومية المزمنة.وتكرار التجارب الديمقراطية ليس دليل عبقرية أو عظمة،بل العكس عدم التعلم من التاريخ.ويؤكد(محمد بشير)على أن الديمقراطية أثبتت بأنها أكثر النظم كفاءة في حل المشكلة.واعتقد أن هذا صحيح ليست لأنها تمتلك وصفة سحرية،ولكن لسبب بسيط هو قدرة الديمقراطية لنقد ذاتها وبالتالي على مراجعة اخطائها.ومن المفترض الا نكون كرماء في اطلاق صفة»ديمقراطية»على النظم التي مرت في السودان.فمن الدقة أن نسميها نظما «برلمانية» فقط. فهي تفتقد لافكار ومؤسسية الديمقراطية.ويبأ الخلل من قوانين الانتخابات ثم التركيب الاجتماعي-الاقتصادي للنواب المنتخبين واخيرا القضايا المطروحة ودور النواب في صناعة القرارات. ومن المفارقات، أن النواب لم يساعدوا في دعم الديمقراطية.ومن الامثلة،البرلمان الأول تردد في الغاء القوانين المقيدة للحريات مثل المادة 105 سيئة الصيت.ولا يمكن أن ننسى أن البرلمان هو الذي قام عام 1965 بحل الحزب الشيوعي السوداني.وقام نواب بطرد نواب مثلهم انتخبهم الشعب وليس هم من البرلمان واسقط عضويتهم!فالبرلمانية في الوسط لم تصنع ديمقراطية راسخة ،بل كانت تخلق اجواء ديمقراطية بسبب غياب القوانين الاستثنائية أو افساح قدر من سيادة القانون ووجود حريات نسبية للتعبير والتفكير. فالبرلمانية نوع من الديمقراطية السياسية ولكن كان ينقصها دائما الديمقراطية الاجتماعية وكذلك الفكرية والدليل على غياب الاخيرة،ان حكم الردة الأول في القضية التي تبناها الامين داؤد وحسين محمد زكي ضد الاستاذ محمود محمد طه عام1968،كان خلال حقبة «ديمقراطية».ورغم كل الضغوط لم ينفذ الحكم بسبب الاجواء.ولذلك احيت القضية عام1976 بوجود دكتاتورية عسكرية. كان(محمد بشير) مدركا جيدا ان ديمقراطيتنا ناقصة،وارجع ذلك الى ما اسماه «معضلة الاستعصاء التنويري أو الاستناري.وضع من شروط الديمقراطية القادمة أن تقوم بتفكيك هذه المعضلة.ويرفع شعار:لا ديمقراطية بلا ديمقراطيين،ولا ديمقراطية بلا استناريين. وينادي بضرورة استزراع مقومات الحداثة والاستنارة من أجل اعادة تأسيس المشروع الديمقراطي.وهنا يعوّل الكاتب على عنصرين وتغييرين: اصلاح المنظومة التعليمية ودور المجتمع المدني.وهذا هو جوهر الوثيقة-البرنامج،والتي تثير السؤال الأساس ماهي القوى الاجتماعية والنواقل الاجتماعية لتحقيق هذا المشروع؟ وللكاتب مقولة مبتكرة وشاملة لوصف الواقع الراهن في السودان خلال السنوات العشرين الماضية،اسماها: الارتداد التحديثي ،أو ظاهرة:انكسار قوة الدفع التحديثي في المجتمع السوداني. فمن أين يحشد مشروعه الجديد القائم على الديمقراطية والتنوير عناصره وكوادره؟من وين(منين) اجيب ناس كما سأل نجيب سرور؟ القوى الحديثة،المصطلح المفضل لدينا صار الى المتحف ،ومن الفولكلور السياسي. أما الطبقة الوسطى فيمكن أن تكون»ستات الشاي»الفئة الاكثر استقرارا وانتشارا،لولا (الكشة) العشوائية ولحسن الحظ لا تدوم طويلا.ولم تعد هناك مدينة ولا مراكز حضرية،وانت القائل بترييف المدينة،ثم الهجرة الى المغتربات الخليجية.وقد أكدت أكثر من مرة،أن هذه التحولات،أدت»الى تدهور كمي ونوعي في الوزن القيادي لقطاع القوى المدنية الحضرية الحديثة(التحديثية)الذي كان قد برز منذ العشرينيات». فمن يقود المرحلة وينفذ البرنامج؟ يشترط اصلاح التعليم ورغم أنه يخفض سقف مطالبه لعلمه بأن النظام لايسمح باللعب في هذا الميدان.فالاصلاح التعليمي عمل دولة أو مجتمع مدني أقوى من الدولة أو قادر على منازلتها.وهذا الوضع غير موجود في السودان.وهنا نصل الى تثمينه العالي لدور المجتمع المدني السوداني.ولكن للأسف ،المجتمع المدني في السودان،صار من الاثافي العديدة.فالمجتمع المدني السوداني مخترق تماما وتكاد (المنظمات الحكومية غير الحكومية!) تكون اضعاف الاصيلة:غير الحكومية حقيقة.وأية محاولة لتكوين شبكة أو شكل كبير يمكن أن تسيطر عليه عناصر حكومية أو حزبية.وهذه الظاهرة سببها ضعف الاسس الفكرية ،فقد اكتفى رواد المجتمع المدني بالحركية وارتاحوا لتسمية»ناشطين».لذلك،لم يكتبوا وينظروا لماهية المجتمع المدني،مما فتح الباب لكل نشيط ومتحرك لكي يلج حوش المجتمع المدني دون مؤهلات وقدرات ورؤى.وكنت اتمنى لو رصد الاخ محمد بشير كيف راقب المجتمع المدني الانتخابات الماضية.فقد برزت عشائرية جديدة وتكالب وتملق للخواجات وشبق للتمويل جدير بالاحتقار.ورغم حساسية ومصيرية القضية لم ير فيها ناشطو المجتمع الا موسم حصاد،وكما ظهر اثرياء حرب في الماضي،ظهر اثرياء انتخابات.لذلك لا تعول على المجتمع المدني بشكله ومضمونه الحالي،فهو لم ينجُ من مشروع»اعادة صياغة الانسان السوداني». أرجو أن يجيب الكاتب عن السؤال:ماهي القوى الاجتماعية والفاعلون الاجتماعيون القادرون على تحقيق البرنامج؟ «البيان»