حول ورش أيديا الرمضانية الأولى والثانية .. القبعة المناسبة.. والهزيمة النفسية وأشياء أخرى (2-2) رباح الصادق المهدي في المقال الماضي تعرضنا للدورة التدريبية لكادر الأحزاب التي نظمتها أيديا بالتعاون مع آخرين حول (صياغة السياسات والديمقراطية الداخلية وتمويل الأحزاب السياسية) وكنا نزمع المواصلة ثم التعرض للورشة الثانية حول (العلاقة مع الجمهور والتخطيط الإستراتيجي) في الفترة 2-6/9/2010م ببعض التفصيل عرفانا بأهمية حالة الأحزاب السياسية، ولكن القضية القاتلة بالنسبة للضمير الوطني الآن هي الاستفتاء على تقرير المصير الذي دهم، ولذلك سنجمل تعليقاتنا حول أشتات دارت في الورشتين في هذه المساحة الضئيلة، بأمل العودة المستقبلية بإذن الله. وقبل أن ندخل في موضوع آخر نعود لموضوعنا القديم حول الفروقات بين الأحزاب، فقد عقب عليه أحد الصحافيين من باب طريفٍ نوعا ما، كتب الأستاذ عصام جعفر في صحيفة ألوان بتاريخ 16/9/2010م واصفا إياي بالفتاة المهدوية وقال إنني كلت الشكر والثناء لوالدي الإمام ووصفت السيد محمد عثمان الميرغني بأنه يسد منافذ الرأي، واعتبر ذلك من باب (كل فتاة بأبيها معجبة).. «ولو كان للسيد محمد عثمان الميرغني أو البشير أو إبراهيم نقد فتيات يتعاطين الكتابة في الصحف لرأينا العجب والإعجاب!!» ومكمن الطرافة لا يرجع لوصف الكاتب لنا بالفتاة بعد أن ولجنا عقد العمر الخامس حيث خرجنا من باقة الفتوة للشباب ثم الكهولة، ولا كونه صنّف كتابتنا من باب (كل فتاة بأبيها معجبة) وكنا نتلبس الموضوعية إذ يبدو أنه من الصعب بالفعل في بلادنا هذه نسيان بنت من أو ابن من هو الكاتب أو الشخص الذي يحاورك، أو إتباع نظرية: موت الكاتب!، ويبدو أن بنوة الإمام الصادق المهدي حقيقة داهمة لن يحيد عنها قراء كثيرون قيد أنملة. الطريف في مقال جعفر تذكيره لنا بحادثة طريفة جرت إبان الاحتلال الثنائي. فقد كان الشاعر عبد الله عمر البنا كتب قصيدته الشهيرة (تحية العام الهجري 1339) وفيها أبيات تهجو قادة البلاد: والناس في القطر أشياء ملفقةٌ فإن تكشّف فعن ضعف وتوهين فمن غني فقير في مروءته ومن قوي بضعف النفس مرهون ومن طليق حبيس الرأي منقبض فاعجب لمنطلق في الأرض مسجون وآخر هو طوع البطن يبرز في زي الملوك وأخلاق البراذين وهيكل تبعته الناس عن سرفٍ كالسامريّ بلا عقل ولا دين يحتال بالدين للدنيا فيجمعها سحتا وتورده في قاع سجين والناس اجتهدت لتفسير تلك الأبيات وقالوا إن بعضها يصف الإمام عبد الرحمن المهدي، وبعضها يصف السيد علي الميرغني، وبعضها يصف الشريف يوسف الهندي. وقام الأخير بتقديم شكوى قضائية جاء في دعواه أن الشاعر عناه بالبيت: وآخر هو طوع البطن..الخ، وحينما نظر القاضي البريطاني في القصيدة قال إن الدعوى لا تنعقد، فالشاعر وزّع قبعات عديدة ومن يراها تناسبه يلبسها! وبالمثل فإنني في المقال لم أذكر اسم أحد من السادة، وزعت قبعتين ليلبسها من يشاء لمن يراه يناسبه! ولو كنا نريد أن نشير صراحة للأسماء لكان لدينا في الورشة نفسها مادة غزيرة، وأسوق مثالا واحدا لحالة مقارنة قام بها الدكتور عدلان الحاردلو أستاذ العلوم السياسية المرموق بجامعة الخرطوم. فقد عقب الصحفي الأستاذ خالد أحمد على محاضرته حول الديمقراطية الداخلية للأحزاب، وكان مهموما من غياب من سماهم الرموز داخل الأحزاب السياسية لأنه لا يوجد بديل لهم وبغيابهم (وكل حال يزول) ستعاني هذه الأحزاب برأيه فراغا وقد تتشتت. عقب دكتور الحاردلو على هذه النقطة بالتأكيد على ضرورة قيام القادة الحاليين بتدريب الكادر ونقل الخبرات، ولكنه أجرى مقارنه بالقول: هناك كاريزمات من الصعب جدا تجاوزها ففي حزب الأمة لا يوجد شخص قريب من الصادق ليس فقط لأنه لم يفتح الطريق للقيادات ديمقراطيا لكن الصادق رجل مشهود له بثقافة كبيرة ومن الصعب الوصول لمستواه. أما في الاتحادي الديمقراطي هذه المشكلة غير موجودة بالأصل. لا نحب أن ندخل في مقارنة لا يؤهلنا لها مقعدنا الأسري لدى قراء كثيرين ينظرون لهذا المقعد فتلبسهم (أم هلا هلا) ولا يسمعون لقولنا أصلا، ولكننا نحب أن نؤكد على نقطتنا الموضوعية وهي أنه توجد فروقات تقل أو تكبر بين الأحزاب وبين القادة، وأي اتجاه نحو الدقرطة معناه التأكيد على هذه الفروقات وإظهارها والضرب على أجراسها لترن وتنبه الحاضرين، ولتشحذ الهمم، وتشجع المحسنين وتأخذ على يد المسيئين حتى تؤطرهم على الحق أطرا، وإلا كما قلنا في المرة الماضية لا فائدة! النقطة الثانية الهامة التي نود التعرض لها هي مسألة الهزيمة النفسية لكادر الأحزاب السياسية، وهي هزيمة ظهرت في الورشتين، ففي الورشة الثانية حول التخطيط الإستراتيجي تحول النقد الذاتي لما يشبه جلد الذات. كنا نظن أن الموقف المتوجس من الأحزاب السياسية وفكرة (أن التحزب سم) مسألة مقصورة على بعض النخب خارج الأحزاب، ومستولدة بفعل الأنظمة الشمولية ودعايتها السلبية باتجاه الأحزاب صاحبة الشرعية الديمقراطية. لكن ظهر بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الموقف الكافر بالأحزاب موجود داخل كادر الأحزاب نفسها بشكل يدعو للقلق، ومكمن القلق ليس وجود مساوئ داخل الأحزاب، ولا كثرة هذه المساوئ، ولكنه هذه الروح الآيسة من إصلاح داخلها. فالسياسي، أي سياسي، لا بد أن يكون صانعا للأمل، وبالتالي حاملا له، وكما ظل الدكتور عطا البطحاني أستاذ العلوم السياسية يكرر القول بأن «السياسة ضد الإحباط العام والسياسي، يجب ألا يحبط وبالضرورة يحمل أملا بالتغيير». هذا الأمل لا يتعارض مع النقد ولا مع الاعتراف بالمساوئ، ولكنه يكون بالرغم منها. لأنه لا يأس مع الحياة، وإذا مات الأمل داخل الكادر القيادي أو الكادر الوسيط معناه موت ذلك الحزب بسبب هذه المساوئ التي سدت على كادره منافذ الأمل! إننا منتمون سياسيا، وعيننا على عيوب كثيرة في حزبنا وفي طريقة عمله والمثال على ذلك موقفنا المعارض لعدم ترشيح أية امرأة في مقعد الولاة لحزب الأمة القومي في الانتخابات الأخيرة المضروبة (قبل أن تبين حقيقتها) ومثلما وقفنا لائمين حزبنا ألا يقدم مرشحة للولاية، فقد وقفنا محيين للحركة الشعبية لتحرير السودان كونها قدمت عددا من النساء مرشحات في ذلك المنصب. الشاهد، نعم نحمل مآخذ على أشياء كثيرة، ولكن في اليوم الذي نفقد فيه الأمل نهائيا فإننا سنحتقب أفكارنا ونرحل بيأسنا لنصنع الأمل حيث يمكن ذلك! ونظن أن أي كافر بمستقبل حزبه آيس من إصلاحه عليه أن يرحل ليستريح، وكذلك فإنه سيريح، إذ ما أقسى الظلام الذي يشيعه القانطون ولاعنو الظلام الذي إنما هو في كلماتهم يعسعس! البعض ينزعج من فكرة خروج الكادر من حزب لآخر، والانشقاقات التي ظلت سمة بارزة في الساحة السياسية السودانية والعربية بشكل عجيب، وهي مزعجة بالفعل من بعض النواحي. إذ أحيانا لا يكون الانشقاق مبينا على برنامج جديد أو خلاف موضوعي، مثلا أحزاب الأمة التي شاركت في الورشة الثانية قامت في مجموعات العمل بتوحيد مجموعتها تحت مسمى (تحالف أحزاب الأمة) وهي: الأمة الفيدرالي، والأمة القيادة الجماعية، والأمة الوطني، وقالت إنها لا تختلف في رسالتها ولا رؤيتها ولا تختلف عن حزب الأمة. وكان سؤال الميسر: إذن لماذا تكونون حزبا جديدا؟ الإجابة ضمنت برأينا في نتيجة أعمال هذه المجموعة التي حينما رصدت المهددات والمخاطر لحزبها كان منها: «سياسة الحزب الحاكم القابضة وهيمنته على مفاصل الدولة مما أدى لتقليل الفرص واستقطابه الحاد للكوادر من كافة الشرائح»- «ووجود حزب مسيطر ومستهلك آليات الدولة لاستقطاب عضوية الأحزاب المناوئة مع الوضع الاقتصادي المعاش».. جزء كبير من الانشقاقات التي تحدث في الأحزاب الكبيرة والمنافسة وصاحبة الشرعية راجع لأعمال كشكش تسد. ولكن تلك الكشكشة لا تكون في الفراغ، إنها تلج أولا عبر الحرب النفسية، حيث يتم تسريب اليأس للكادر، والحرب النفسية تتغلغل عبر الآلة الإعلامية الضخمة والتي لا قبل للأحزاب بها، والإشاعات المدروسة فأصحابنا هناك في المكاتب الأمنية المتخصصة يتقنون فنون الحرب النفسية كلها ويعلمون كيف يدخلون «السوس» حتى ينخر الأضراس الحزبية تهيئة لاقتلاعها عبر آلة «الكشكشة»، إذ حينما تبهت روح الأمل، وحينما تهزم نفسيا لن تستطيع الاستمرار في «الوقفة النبيلة» وهكذا تأتي أجندة البقال والغسال كما قال أحدهم، وتنهار أمام رنين الدينار! خروج المهزوم مصلحة له لأنه وقد هزم أصلا لا يمكنه الاستمرار في المعركة وهي معركة ضارية فيها حرب اقتصادية طاحنة وإفقار وإشانة سمعة وفصل وبقية العقد الفريد من وصفة التمكين والتوهين (تمكين كادر المشروع الحضاري وتوهين معارضيه)، ومصلحة للحزب، لأن مثل هذا الكادر المهزوم لو بقي سيشيع الهزيمة على نحو ما تفعل البرتقالة المعطوبة، وسيكون زائدا كالناقص، إنها معادلة ربحية للطرفين win-win formula! ونعتقد أن مثل هذا النوع من الخروج الحزبي مسألة ستظل مستمرة ما ظلت هذه السياسات المحكومة بثنائية التمكين والتوهين، وعلى الأحزاب أن تعي بها كحقيقة، وأن تبلور إستراتيجية للتعامل معها لتقليل الخسائر وتطوير الأداء. ويمكن مداولة الأفكار التالية: - إشاعة الديمقراطية الداخلية هي الحصن الأول، حتى لا يتسرب الأعداء كالنمل من عيوبنا على حد تعبير نزار قباني رحمه الله. وينبغي أن تتاح أعلى درجة من النقد الداخلي وتعضد قنوات الحوار الداخلي وتستخدم فيها التكنولوجيا الحديثة حيث يمكن ذلك (خاصة بالنسبة للمهجريين)، ولكن بالنسبة للديمقراطية العلنية توجد مفارقة في درجة الديمقراطية الممكن إتاحتها، فالأحزاب الليبرالية تسمح بدرجة عالية جدا من النقد الذاتي المعلن، والأحزاب الماركسية بنيت على فكرة المركزية الديمقراطية التي يلتزم فيها الأعضاء بقرار المؤسسة ولا يعلنون معارضتهم له. وفي الحالة السودانية الراهنة صار نقد الأعضاء العلني لأحزابهم يستثمر لإشاعة الحرب النفسية، وصارت وكالات إعلامية كاملة ومؤسسات برمتها تستخدم في إظهار صوت الكادر المعارض لهزيمة الحزب. هذا الأمر يسبب مشكلة كبيرة والقرار حوله سيضر أيا كان. فلو كان القرار هو الحد من قدرة الأعضاء على النقد العلني هذا معناه تقليل مساحة الديمقراطية، ولو كان القرار إتاحة حرية النقد العلني بالكامل فهذا معناه فتح منافذ للإعلام الموجه لهزيمة الأحزاب وزيادة مساحة الحرب النفسية. وعلى الأحزاب أن تفكر بجدية في أخف الضررين أو الخلطة التي تتيح قدرا من الحرية في النقد العلني، ولكن لا تسمح بالتجاوزات التي قد ترفد الحرب النفسية، على أن ينظر لتلك الضوابط بأنها آنية، ومرتبطة بالوضع الحالي وهو وضع شمولي لا شك فيه برغم الهامش المتاح، إنه هامش يوظف مع عدم وجود الضوابط في هزيمة الأحزاب لا في تطويرها. - الشفافية، وإستراتيجية الوصول للمعلومات. لقد بح صوتنا من قبل داخل حزبنا، ونعتقد أن ذلك مطلوب داخل كل الأحزاب، وهو ضرورة إتاحة قدر أعلى من الوصول للمعلومات التنظيمية والسياسات وإيصالها أولا بأول وللكافة. وهنا تكمن قضية هامة جدا فالبعض يخاف من الاختراق بسبب سهولة الوصول للمعلومات، وبعض الأحزاب الصفوية لها باع طويل في ضرورة اختبار العضوية وسد المنافذ أمام الاختراق بأشكال من المصافي التنظيمية المختلفة. وبرأينا أن هذا في الوضع الحالي شبه مستحيل، فالحل ليس مزيدا من المحاذير، بل مزيدا من الشفافية. أشيعوا المعلومات كلها، إنهم يعلمونها ليس في ذلك شك، فاجعلوا عضويتكم تعلمها لتكون سدا منيعا فالمرء عدو ما يجهل، والمرأة كذلك! وليبق ما بيننا الاحداث