غرس الوطن أيها الانفصاليون.. إنكم تضيِّقون واسعاً..!! أم سلمة الصادق المهدي عندما استرجع بالذاكرة التركيبة السكانية لمنزلنا - منزل الامام الصديق - بالملازمين حيث نشأت، حتى الثمانينيات، أتعجب لذلك الكم الهائل من الناس كيف ضمه منزل واحد! والذي يتكون من خليط متجانس من قبائل سودانية شتى يعيشون كأسرة ممتدة. ففي منزلنا كان العرب والزرقة كما يصنفون الناس الآن باللون في هذا الزمن الأغبر.. كان فيه فور ومساليت وزغاوة وبرتي ونوبة وكواهلة وحمر وبقارة وعبابدة وبني حسين وبني هلبة وشلك وغيرهم. ومنذ الطفولة الباكرة وعيت على صورة معلقة في مكتب والدي في البيت للسيد وليم دينق القيادي الجنوبي الذي اغتيل غدرا في الستينيات. هذا المنظر ألقى في روعي أن الأصول الاثنية المختلفة لا تمنع التواصل والوصال، ولا تقرر الاحترام من عدمه، وكل ما تخدمه أنها قد تلحق بنهاية بعض الأسماء ليقال حامد البقاري مثلا فهي للتعريف والتعارف، كما قال ربنا وليست للتمايز والاستعلاء. ولم تكن العلاقات بين ناس بيننا تقوم على خدم وأسياد كما يحاول تصويرها بعض المفترين، ولكنهم أحباب أتت بهم العقيدة الأنصارية، فهجروا ديارهم وناسهم ليكونوا مع ود المهدي، ولم يكن يكدر محبتها الصافية كون المتحابين قبائلهم شتى ولا حتى دينهم آخر، فقد كانت من ربتنا مسيحية أثيوبية. كما علمني هذا الجو أن في التنوع غنى وخيرا كثيرا، اضافة للتربية الأنصارية التي بدأت دعوتها برج المفاهيم الاجتماعية بقوةٍ قلبتها رأساً على عقب حتى قال ود سعد مادح الامام المهدي «خليت الحر يقول للعب يا سيدي»، وقد اعتمد الامام المهدي سياسة بعيدة النظر لتسهيل هذا الانصهار والتمازج، فتزوج من دينكاوية «أمي محل الجود ولد منها عبد الله» ومن نوباوية «امي قبيل الله ولد منها نصر الدين»- نعوم شقير، تاريخ السودان، بل ان أم ولده الفالح الذي بعث الدعوة مرة أخرى بعد ما ذهبت دولتها كانت يومة مقبولة من قبيلة الفور، وكانت أمها دينكاوية، وقد أراد الله أن يقبض روح الامام المهدي وتنتهي دولته فتترك مهمة لتلك السيدة على قدر عزمها، عظيمة. فكانت هي من أهم عوامل تكوين شخصية الامام عبد الرحمن محقق استقلال السودان الثاني بلا منازع. وان مدّ الله في عمر الإمام المهدي لصار السودانيون الآن خليطا متجانسا «مثاله ام درمان الأولى وأبا الثانية» وفي الحقيقة فإن المهدية ليست بدعا في هذا، فالاسلام «أصلها» يقول إن الناس سواسية كأسنان المشط، وما تميزهم الا التقوى ومكانها القلب الذي لا يميز بألوان تختلف من شخص لآخر. وفي الحقيقة ونحن على بعد مدى زمني لا يزيد على الأربعة أشهر من استفتاء مصيري سيقرر ان كان السودان سيظل أرضاً للمليون ميل مربع كما استقر في وجداننا لعمر، أم أننا سنضطر الى اعادة تنشئتنا الاجتماعية لكي نتقبل أن جزءاً عزيزاً علينا ذاهب لا محالة! ونجد أن مثل تلك النماذج للتعايش الحميم تنفعنا وتنعش ذاكرتنا الجمعية، إذ تقرر أن المشاكل تبدو بلا حلول ان كنت تجهل الآخر، لأن من جهل شيئا عاداه وتخوف منه، فها هو د. فرانسيس دينق يخبرنا عن تجربته الشخصية حتى مع قبائل جنوبية أخرى قائلاً «وفى أول مرة ذهبت انا و اخوتى للدراسة فى الجنوب اتى المفتش الانجليزى وحضر اجتماع زعماء القبيلة واشار على والدى بأن الافضل لنا ان ندرس فى الجنوب، وفى الشمال حتى نكون ملمين بكل الثقافات من حولنا، انا اعتقد أن هذه فكرة كانت حكيمة اقنعت والدى، فانتقلنا الى مدينة واو ورأينا قبيلة «الفرتيت». ومن خلال القصص التى كانت تروى لنا كنا نعتقد أن الفرتيت من اكلى لحوم البشر، وفى تلك الليلة لم نستطع النوم لاننا كنا نخشى ان يأكلنا الفرتيت ونحن نيام! وكنا عندما نشعر بأية حركة فى الخارج كان يتملكنا شعور بأن لحظة حتفنا قد حانت!» «من التفكير نقديا في نزاع الهويات فرانسيس دينق نموذجا، هشام عمر النور، الحوار المتمدن من الانترنت». بتلك الخلفية والآمال الكبار توجهت في يوم الخميس المنصرم 16/8/2010م ضمن جموع غفيرة صوب قاعة الصداقة لحضور المناظرة التي دعت لها المنظمة الطوعية لدعم الوحدة الطوعية، والتي أدار جلستها د. الطيب زين العابدين وترأسها السيد محجوب محمد صالح «رئيس المنظمة» وتحدث فيها وحدويون هم: «د. واني تومبي، والإمام الصادق المهدي» وانفصاليون هم: «العميد ساتي سوركتي والمهندس فاروق جاتكوث» ثم معقبون هم: الدكتور لوكا بيونق «عن الحركة الشعبية» والبروفيسور ابراهيم غندور «عن المؤتمر الوطني»، ثم أعطيت فرصة خارج البرنامج المعد مسبقا للسيد بيتر بشير باندي «رئيس المجلس التشريعي المحلي بجوبا». وقد تمت تغطية المناظرة اعلاميا بما وفى وكفى، وكان حضورها كثيفا حتى اكتظت بهم القاعة الدولية وفاضت، وقد تم توصيف الحضور الكثيف وكل التفاصيل المتعلقة التي تنقل المشهد كاملا لمن غاب بكثير من الصحف السيارة باهتمام بالغ. ولا عجب، فالقضية موضوع المناظرة قضية مفصلية تناقش حدثا صحيحا سيقرره ثلث السكان هم سكان الجنوب، لكنه يؤثر على بقية الأربعين مليون سوداني داخل وخارج حظيرة الوطن. وقد علق كثيرون قلوبهم وآمالهم على فعل هذه المنظمة كما سيد الرايحة، وهو تعلق له ما يسنده..!! فعندما نستعرض المعلومات عن تلك المنظمة التي ولدت بأسنان نركن ونطمئن اليها والى عملها دون تردد، ذلك أن صاحب فكرتها الأساس كما يخبرنا د. الطيب زين العابدين من وطنيي هذا الوطن الشرفاء وجنوده المجهولين الذين يسوءهم ما يكدره، والرجل ممن نخصه بالمحبة والاحترام ونعرف جميله ونذكره. ويخبرنا عن ذلك د. الطيب قائلا «في لحظات قلق معنوي خلاق خيل للأستاذ عصام إبراهيم النور أن قضية وحدة السودان ليست أمرا خاصا يتعلق بالمؤتمر الوطني الذي يدعي أنه يمثل أهل الشمال عن بكرة أبيهم، ولا الحركة الشعبية التي تدعي تمثيل كل الجنوب، ولكنها قضية عامة تخص كل أهل السودان أجياله الحاضرة والمستقبلة، وبما أنه أحد أبناء السودان الذين اشتغلوا بالشأن العام لعشرات السنين فإن الأمر يخصه شخصيا كما يهم أكبر زعيم سياسي في المؤتمر الوطني أو الحركة الشعبية، ولا يجوز له أن يكون خارج دائرة الفعل في ما يتعلق بقضية وحدة السودان مهما كانت المحبطات»، فكان أن اتبع القول بالعمل، واتصل بخيرين استجابوا لدعوته تلك حتى في الزمن الضائع لمحاولة فعل شيء فإن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي، وهم: د. الطيب زين العابدين، قاسم بدري، كمال علي صالح، محجوب محمد صالح، دفع الله الحاج يوسف، يوسف تكنة، كامل شوقي، ديفيد كويث، نور الدين ساتي، عبد الباسط عبد الماجد، محمد ابراهيم كبج، علي محمد الحسن، خلف الله الرشيد، عبد الله حسن سالم، توماس توفيق، عبد الرسول النور، منصور يوسف العجب، وآخرون من ذات الزمرة المتعاقبة في أعمارها والمنفعلة بهموم الوطن»، انتهى كلام د. الطيب من مقاله الأسبوعي في «الصحافة». هكذا تشكلت تلك المنظمة «من بين فرث ودم»، كما ذكر د. الطيب، برعاية هؤلاء النفر الكريم المؤتمن والأمين، وكان من أعمالها تلك المناظرة، وهي من الأدوات الفاعلة التي ان وجدت بيئتها المناسبة تحقق توجيها وتغييرا للرأي بصورة غاية في التحضر، وتساعد على تقبل الرأي والرأي الآخر بسلاسة، وكما جاء تعريفها في موقع ويكيبيديا: «المناظرة في اللغة مأخوذة من النظير أو من النظر بمعنى الإبصار أو الانتظار، وفي الاصطلاح هي النظر بالبصيرة من الجانبين المعلل والسائل بغرض إظهار الصواب. وعلم المناظرة علم عربي أصيل يختص بدراسة الفعالية التناظرية الحوارية من خلال تقعيد قواعدها المنطقية وشروطها الأخلاقية بقصد تطوير أسلوب المباحثة التي تتم بين طرفين يسعيان إلى إصابة الحق في ميدان من ميادين المعرفة، حيث يواجه كل طرف الطرف الآخر بدعوى يدعيها ويسندها بجملة من الأدلة المناسبة، مواجها في ذلك اعتراضات الخصم». ومن المفروغ منه أن المناظرات تعرض الرأي وضده على مستمعين كلهم آذان صاغية، ولا مجال هنا لهتاف أو صياح ولا مجال لغوغاء، حيث يفترض في الحضور سماع الآراء المختلفة للتفكير فيها وفي منهجها ومحاكمتها احتكاما الى العقل ومن ثم قبولها أو رفضها بالرجوع للمنهج الذي عرضت به. ولكننا نزعم أن تلك المنظمة في ليلة المناظرة أرادت حقا فأخطأته، ومن عشمنا وحسن ظننا بها نرى أن هناتها كانت من باب عجز القادرين على التمام، ونعدد في الآتي ما رأيناه أوجها للقصور جعلت دعوتها تقصر عن بلوغ هدفها المعلن، وجعلت جموعنا تخرج متيقنة بأن تيار الانفصاليين كاسح لا محالة، فكانت الجموع الخارجة حزينة كمن دفن عزيزا: تمت تغطية السور الخارجي للقاعة عند المدخل بشعارات الانفصاليين الشماليين، مما زود الأجواء بمزيد من الشحن والشحناء، وقد كان يجدر بالمنظمين منع ذلك، أو على الأقل موازاته بشعارات تدعو للوحدة. وكان على المنظمين خفض درجة المشاعر الملتهبة قبل بدء المناظرة بأقصى صورة، والتفكير في طرق مبتكرة وغير معتادة بما فيها عرض فلم قصير مثلا يتحدث عن مزايا الوحدة أو يعرض لنموذج لتعايش شمالي جنوبي، أو ربما أجدى خطاب من صاحب تجربة في التعايش والمساكنة مثل د. فرانسيس دينق كما هو موثق من تجربة دينكا نقوك والمسيرية في أبيي لخفض درجة حرارة الحماسة المندفعة. وبدأ الحديث باعطاء الفرصة الأولى لانفصالي شمالي «السيد ساتي سوركتي القيادي بمنبر السلام العادل»، ثم أعطيت فرصة لجنوبي وحدوي تم تصنيف دعوته الوحدوية فورا على أساس تخويني بعد مرافعات السيد سوركتي المنفرة من الوحدة التي تظهر الوحدة كاعدادٍ أجنبيٍ ماكر يغرز مثل قنبلة موقوتة في خاصرة الشمال، بل ذهب إلى أكثر من ذلك بتكفيره لمبدأ فصل الدين عن الدولة، وهي قضية بها التباس كبير، فبينما الصحيح أن الدين لا يمكن طرده من حيوات الناس، لكن الدولة في الاسلام مدنية كما يرى كثير من الثقاة، فهذه الشعارات التي يتخذها بعض المتاجرين بقضايا الدين ضررها أكبر من نفعها «مثلما رفع عمرو بن العاص المصاحف في وجه الكرار، ثم غدر به». فما نفعنا بوضع كلمة تطبيق الشريعة بينما نسرق على عينك يا تاجر ولا نلتزم العدل في المعاملة، ونظل نكذب ليلنا والنهار، ولا يربطنا بالإسلام توجيهه الأخلاقي ولا بعده القيمي؟ فكان حديث المهندس فاروق جاتكوث ملونا بتلك الانطباعات، وبمثابة الرد على تطرف ممثل منبر الشمال، وان صوب أسهمه تجاه من رافع عن الوحدة قبله حتى قال إن كل من سبق اسمه بحرف الدال هو ابن للحكومة قاصدا د. واني..!! وطلب من الدكتور واني أن يتحدث بالانجليزية، وقد قال هو إن ذلك كان بسبب بعض الاعتبارات الفنية بقصد الوصول الى الحضور الأجنبي، وذلك غريب، فالأولى مخاطبة المواطنين السودانيين، وكان يمكن توفير ترجمة انجليزية فورية للآخرين كما فعل عند الترجمة الى العربية، ولكن الفرق أن غير الناطقين بالعربية قلة، ويمكن توفير خدمة الترجمة الفورية لهم بصورة أفضل بينما العكس ليس صحيحاً. تمت مقاطعة الإمام الصادق بفصل الميكرفون في آخر عشر دقائق بصورة لا يمكن تفسيرها، ثم نودي بتنبيه للالتزام بالزمن وبالهتافات التي تدعو للانفصال. أعطيت فرصة إضافية لانفصالي مشحون بالمرارة والغضب السيد بيتر بشير، وهو لم يكن مدرجاً في البرنامج أصلا، يقول انه قادم من جوبا ليعكس أن الجنوب قد قرر مصيره، مما رفع عدد الذين ترافعوا عن الانفصال مقابل الداعين الى الوحدة. وكانت الكلمة الأخيرة لممثل عن الحركة الشعبية هو د. لوكا بيونق وممثل عن المؤتمر الوطني هو بروفيسور ابراهيم غندور، مما نقل تشاكس ممثلي الحكومة الى قاعة الصداقة، وألقى بظلال سالبة على هدف الدعوة للوحدة. وفي رأيي أن المنظمة لم توفق في اختيارها للمتحدثين تماما ولا في تخطيطها للبرنامج. مثلا كان يجب أن تحصر المناظرة بين وحدوي جنوبي وآخر انفصالي جنوبي، وما من داعٍ أصلاً لدعوة منبر السلام العادل حتى يكون الحديث مركزا على من سيدلون بأصواتهم فعلا ثم يكون تفنيد دعاوى الانفصال بورقة الامام الصادق ليس باعتباره شماليا يدعو للوحدة انما بوصفه مفكرا وحكيما وطنيا وقوميا خارج التصنيفات الاثنية، وقد كان ظاهرا أن بعض تلك الرؤية كانت بذهن من دعوه للمناظرة، فالسؤال الذي وجه له مختلف عن سؤال الآخرين، حيث كان: لماذا تؤيد وحدة السودان؟ بينما تحدث الآخرون عن لماذا يؤيدون وحدة الجنوب مع الشمال أو وحدة الشمال مع الجنوب. وكان يجب أن تسند مرافعات الوحدة لوحدوي جنوبي بعيد عن محاضن الحكومة، فقد تم اتهام د. واني صراحة على أساس أنه ابن الحكومة، مما قلل من قوة موقفه ومرافعته وضيعها، وذلك بالرغم من أن ورقته أعدت باخلاص فعلا وبمنهجية، ولكن لا يمكن تقييم محتوى أية رسالة بمعزل عن مصدر الرسالة كما يقول علماء الاجتماع، فقبول رسالة ما يعتمد على محتواها وعلى متلقيها وعلى مصدرها أيضا، فيتعذر قبول شهادة د. واني المدافعة عن الوحدة في ظل هذه الاتهامات. وأعطيت فرصة تعقيب في الختام لممثل عن المؤتمر الوطني هو بروفيسور ابراهيم غندور الذي دعي ليقول إن حزبه مع الوحدة. وفي رأيي أن هذه الاضافة للوحدة مسختها وكانت خصما عليها، فالمؤتمر الوطني يدعو لوحدة لا يريد دفع مستحقاتها، ومجهوداته من أجلها لا تتعدى لبس القمصان المزركشة و«علوقة الشدة» التي لا تنفع، وقد فسرها كثيرون كرشاوى ممتهنة للكرامة، وفي رأي كثير من أصحاب الشأن أن حرص المؤتمروطنجية على الوحدة يأتي من باب طمعهم في موارد الجنوب وليس اهتماما بإنسانه. وهذه بضاعة مرفوضة بداهة، ومثلما تحول عرس الانتخابات في أبريل الى مأتم شبعنا فيه ندبا لحظوظنا، كذلك الوحدة سيقلبونها غما ليس في ذلك شك، وطالما كان المؤتمر الوطني من دعاة الوحدة بشكلها الذي تعرض به، فستكون النتيجة هي الانفصال لا محالة، وسيظل التشكك المشروع ملقيا بظلاله على مشروعات الوحدة جميعها حتى المخلصة! وبهذا الخصوص على المنظمة أن تحدد مواصفات الوحدة التي تريد الذود عنها قبل تنظيم أي عمل. إن قضية مفصلية مثل قضية تقرير المصير تستوجب من الجميع فتح القلوب والعقول للتلقي، ففي تلك اللحظات نحن أحوج ما نكون الى حوار موضوعي لا تحكمه العواطف الجياشة، ولكننا نحتاج فيه إلى حميمية بطين البطين وموضوعية مخيخ المخ، كما قال الامام الصادق في حديثه ذاك الذي بدأه رغم تحذير بعض زملائه له من التحدث بسبب أن الجو مشحون، فكانت اجابته: إن الديمقراطية أصلها صبرك على مخاطبة الرأي الآخر «أو كما قال» في بداية حديثه الذي أعرف أنا بحكم ما شاهدته أنه قد عصر فيه قلبه وعقله معا لأيام متواصل ليلها بنهارها ليخرج معقولا وموضوعيا، ولكنه دافئ وحميم، فمثل هذا الحديث هو ما قد يلقى آذانا صادقة. وما يثير العجب حقا هو أن انفصاليي الجنوب والشمال وبالرغم من اختلاف وسائلهم لكن غاياتهم التقت وصارت أهدافهم واحدة ومعا، لا يوجهون عداءهم الأشد الى بعضهم ولا الى دعاة الوحدة الملتبسة من المؤتمروطنجية، بل نحو دعاة الوحدة المرشدة فقف وتأمل..!! عند انتهاء المناظرة حم محمد وعس عيسى «كما يقول الامام الصادق» ذلك أن التهريج كان سيد الموقف، ونهمس في أذن أهل المنظمة بنصائح نرجو أن تجد أذنا صاغية تعيها: لا يجب أن يعتلي منبر الدعوة للوحدة الطوعية في زمن نتسابق مع دقائقه أصحاب منبر السلام العادل، لأنهم ليسوا من سيقرر فعليا الانفصال، ولكنهم يسممون الأجواء ويشحنون المشاعر. ولا بد من تسويق الوحدة في ثوب قشيب تعرضه تجارب حقيقية مثل ما وثقه د. فرانسيس دينق بين الدينكا والمسيرية، وشهادته ذات قيمة خاصة لأنه من منطقة كانت نموذجا للتعايش الشمالي الجنوبي، وما تحولها الى منطقة للنزاع الا من أكدار الزمان، وقد كتب كتابا عن الناظر العظيم «بابو نمر» ناظر قبيلة «المسيرية» ذات الأصول العربية بعنوان «ذكريات بابو نمر»، كما كتب عن والده سلطان قبيلة «دينكا نجوك» كتابا حمل اسم «رجل يدعى دينق مجوك»، وقد فعل هذا لأنه يؤمن بأن محاولة صناعة صراع الثقافات كالتي نشأ وترعرع فيها سترتد إلى منابع الشر التي جاءت منها، وأن حوار الثقافات سيفوز في نهاية السباق، وأن أنماط التفكير التي تخلق الصدام ما بين العروبة والأفريقية ستدور حول نفسها حتى تسقط من الإعياء. «فرانسيس دينق، كان جنوبيا هواها، بقلم شرف الدين محمد أحمد العوض». وكذلك يمكن الاستعانة بشهادات تجربتها حقيقية مثل تجربة د. واني تومبي في جامعة الجزيرة، ليحكي كيف كانت علاقته بطلابه وزملائه من الشماليين ملفوفة بالحميمية والتواصل الانساني الصرف بعيدا عن تمايزات الأعراق. وفي ختام الحديث لا نملك الا الأمل مع الإمام الصادق في نهاية حديثه، بأن تحلق بلادنا من جديد كالعنقاء بقول أبي الطيب: كم قتلت وكم قد مت عندكم ثم انتفضت فزال القبر والكفن ولا نملك الا الدعاء بأن يجنب الله السودان وأهله الشرور ما ظهر منها وما بطن، ويوفق كل مسعى رشيد. وسلمتم. الصحافة