زاوية حادة أبو ظبي وتقليب المواجع جعفر عباس بعد أن عدت من الخرطوم قبل نحو أسبوعين، زرت أبوظبي التي عملت فيها صحفيا لنحو تسع سنوات، وأسعدني أن معظم أصدقاء تلك المرحلة ما زالوا مثلي يواصلون النضال لتكوين النفس، وافتقدت بعض الوجوه الحميمة وقيل لي إن معظمها اغترب داخل الاغتراب (على وزن “ثورة في الثورة" للكاتب الفرنسي ريجيه دوبريه)، يعني طفشوا الى امريكا وكندا واستراليا، وصار اغترابهم “نهائيا"، لأنهم اختاروا تلك البلاد كأوطان بديلة، وكلما جاء هؤلاء الى السودان في إجازات كلما أحسوا بأنهم صاروا “مميزين" لكونهم يحملون جوازات سفر تكفل لهم حسن المعاملة من سلطات الجوازات والهجرة، لأنهم يُزوَدون ببطاقات سارية لخمس سنوات تعفيهم من الحصول على تأشيرات خروج مسبقة كما هو الحال بالنسبة ل"أهل الذمة"، أي المغتربين الملزمين بقضاء يوم كامل في جهاز السودانيين العاملين بالخارج، للحصول على براءات ذمة تكفل لهم حق العودة الى المهاجر عندما ذهبت الى ذلك الجهاز قبل 3 أسابيع، لم أكن أحمل هما، فقد كنت أعرف حجم الالتزامات المالية المطلوب مني سدادها، وأن الزملاء في قسم العلاقات العامة والصحفية سيساعدونني ليس فقط بوصفي “زميلا"، ولكن أيضا لأنهم يفعلون ذلك مع كل مغترب “رأسه ضارب"، وأصيب بالدوار وهو ينتقل من شباك الى آخر.. جاءتني الزميلة التي حملت أوراقي قائلة: عليك زكاة 800 ألف.. قلت لها: هل قرأ جماعة الزكاة اسمي جيدا وانتبهوا إلى أن اسمي ليس جعفر “الوالي" أو جعفر غيتس؟ أبرزت لي مستندا مطبوعا عليه اسمي الثلاثي، ويفيد أن الزكاة المفروضة علي ارتفعت بنسبة 500%!! استذكرت ما درسته عن الزكاة وعن دفع ربع العشر عن مبلغ معين إذا حال عليه الحول، وفكرت في استخدام تلك المعلومة لمحاججة الموظفة التي أخرجت من الكمبيوتر ذلك المستند، ولكنني تذكرت أنه ينبغي علي أن أكون مواطنا صالحا، وبما أنني من أنصار بقاء السودان موحدا وبما ان الحكومة صارت مهووسة بالوحدة الجاذبة فلابد أنها رأت أن تحملني عبء تمويل بعض المشروعات في جنوب السودان.. ثم تذكرت أنني لست مواطنا من الدرجة الأولى بدليل أنني محروم من حق أساسي هو حق السفر والتنقل، فسألت الموظفة: هل لديكم وثائق بأن مدخراتي ارتفعت أو بأنني نلت ترقية فقررتم رفع قيمة الزكاة المفروضة علي؟ فسألتني بدورها: ماهيتك/ مرتبك كم؟ فقلت لها ضاحكا إن العلماء اختلفوا حول هذا الموضوع، ثم استخدمت العبارة الكليشيه التي أرددها أمام كل من يسألني عن عمري: هذا سؤال لا أقبله إلا عندما أكون طالب وظيفة أو طالب زواج أو من طبيب.(وحتى الطبيب يكفيه ان يعرف عمر المريض بالتقريب.. يعني لو أكلت سنتين أو ثلاثة من عمرك أمامه،.. ماشي الحال) فتوجهت إلى مكتب مدير “الزكاة" في الجهاز، ووضعت المستند أمامه ونطقت ببضع كلمات، فإذا بالرجل ودون أن ينبس بكلمة يشطب ذلك المبلغ ويعيد “زكاتي" إلى قيمتها الأصلية ثم يقول: معليش.. الخطأ واضح.. شكرته بعنف فهز رأسه مبتسما بلطف. تذكرت كل ذلك عندما زرت أبوظبي، ففي النادي السوداني فيها استمعنا من وفد عائد من الخرطوم أنه تقرر فرض ضرائب الزامية على المغتربين لأول مرة (في عهد نميري)، .. “فقدت" أعصابي ووقفت ولعنت خاش الحكومة ودعوت الحضور إلى الامتناع عن سداد تلك الدقنية/ الجزية.. وكلما دوت الأكف بالتصفيق كلما زاد ابو الجعافر العيار بعد أن أحس أنه “بطل قومي/ ونصير المغتربين"، وهكذا دخلت في حقبة المنفى الاختياري، خاصة وان السيد كمال حسن أحمد مدير جهاز الأمن وقتها بعث إلي برسالة شفهية مع زميل مغترب: عامل فيها بطل؟ أبقى راجل وتعال السودان!! كانت تلك رسالة تحذير مهذبة من رجل مهذب بأنني سأروح فيها لو زرت السودان. الرأي العام