الرأي23 أبيي والسير على حافة الهاوية أ.د.الطيب زين العابدين أعرب مجلس الأمن في اجتماعه يوم الخميس الماضي «16/12» عن قلقه لعدم تحقيق تقدم في مسار إجراء استفتاء منطقة أبيي، وقالت مندوبة أمريكا سوزان رايس إن المجلس قلق لعدم التوصل إلى اتفاق بشأن أبيي، وأنه حث الأطراف على تهدئة التوترات المتصاعدة في المنطقة والتوصل فوراً إلى اتفاق بشأنها. وسبق اجتماع مجلس الأمن تصريحات المبعوث الرئاسي الأمريكي سكوت غرايشن يوم الإثنين الماضي «13/12» عقب عودته من زيارة لدارفور أفصح فيها عن مقترح أمريكي جديد لحل مشكلة أبيي التي أصبح مستحيلاً إجراء الاستفتاء فيها بحلول التاسع من يناير، متزامناً مع استفتاء الجنوب على تقرير المصير. ويقترح المشروع الأمريكي ضم أبيي بقرار رئاسي إلى جنوب السودان وتخصيص محلية في الجزء الشمالي من المنطقة تمنح المسيرية فيها ثلثي مقاعد السلطة، كما تمثل القبيلة بنسبة الثلث في إدارة كل منطقة أبيي، وذلك لأن تقسيم أبيي إلى جزءين أمر صعب، وكذلك ضمها للجنوب من دون مشاركة المسيرية. وبما أن الحركة الشعبية لم ترحب بهذا الاقتراح فإن واشنطون أبدت استعدادها للضغط على الحركة بوصفها بعدم المرونة في حل المعضلة أمام المجتمع الدولي، وأن ذلك سيؤثر على منح المساعدات الأمريكيةللجنوب، وقد يعطل اعتراف الحكومة الأمريكية بنتيجة استفتاء الجنوب. واعترف غرايشن في محادثة هاتفية من الدوحة للمؤتمر الصحفي الذي نظمته السفارة الأمريكيةبالخرطوم لعدد من الصحافيين بالولايات المتحدة في نهاية الأسبوع الماضي، بأن قضية أبيي عاطفية وصعبة جداً، ويشارك فيها لاعبون كثر. ويمثل هذا الاعتراف خلاصة تجربة المبعوث الأمريكي الذي شارك وتابع المفاوضات المكثفة حول القضية من نيويورك إلى الخرطوم إلى جوبا إلى أديس أبابا، دون نجاح يذكر في فض الاشتباك بين أطراف النزاع. ورغم الانحياز الأمريكي للحركة إلا أنه توصل إلى قناعة بأن الحركة هي التي تتصلب في مواقفها. ولم يكن حظ ثابو مبيكي رئيس اللجنة العليا للاتحاد الإفريقي الذي كلف بتسهيل المفاوضات بين الشريكين على حل قضايا ما بعد الانفصال، بأحسن من قرينه المبعوث الأمريكي، فقد تقدم مبيكي بستة اقتراحات لحل مشكلة أبيي اختار المؤتمر الوطني أحدها أساساً للمفاوضات، وهو تقسيم المنطقة بين الدينكا والمسيرية، واختارت الحركة مقترح ضمها بقرار رئاسي مع حوافز اقتصادية لحكومة الشمال وحفظ حقوق الرعي لقبيلة المسيرية. ولقد كان غرايشن ومبيكي أكثر اجتهاداً في البحث عن حل سلمي جاد للمشكلة أكثر من أصحابها المؤتمر الوطني والحركة الشعبية اللذين ضيعا زمناً ثميناً في المراوغة والمزايدة عبر لجان التفاوض المشتركة، بل أقدما أخيراً على التصعيد وزيادة التوتر من باب الضغط على الطرف الآخر، وهذا ما أسميه بالسير على حافة الهاوية الذي يمكن أن ينتهي بنا إلى انفصال متوتر يقود إلى نزاع ومواجهة عسكرية. وبدأ التصعيد من جانب الحركة الشعبية بالتهديد بتنظيم استفتاء آحادي في منطقة أبيي دون موافقة حكومة السودان أو مشاركة المسيرية، ثم التهديد بمنع المسيرية من الرعي جنوباً الذي يبدأ في الأسابيع القليلة القادمة، والذي يعرف حياة الرعاة الرحل يدرك أن هذه الخطوة بمثابة إعلان حرب بين المجموعتين السكانيتين بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. ولتعزيز خطواتها الآحادية نشرت الحركة الشعبية بعض قوات الجيش الشعبي مدججة بآليات ثقيلة حول منطقة أبيي، وذهبت خطوة أبعد في استفزاز حكومة السودان بدعوة قيادة فصيلين من حركات دارفور المتمردة «العدل والمساواة بقيادة خليل إبراهيم والجزء الموالي لمني أركو مناوي من حركة تحرير السودان». وتتابع التصعيد من الجانب الآخر بإعلان المسيرية لحكومة خاصة بهم في منطقة أبيي، وبتعبئة وحشد المليشيات من أبناء المسيرية وتشوين السلاح الخفيف والثقيل، وخرقت الحكومة وقف إطلاق النار بقصفها بعض معسكرات حركات دارفور في شمال وغرب بحر الغزال. وقد تكون خطوات الطرفين المتشاكسين من باب الضغط والتهديد، لأن كلاهما ليس مستعداً لحرب في هذا الوقت، وليس من مصلحته أن تنشب حرب لا يدري إلى متى تطول، وينطبق عدم الاستعداد على الحركة الشعبية أكثر مما ينطبق على المؤتمر الوطني، فهي رغم تمرسها في القتال لسنوات عديدة، إلا أن دولتها الجديدة مازالت جنيناً لم يحبُ بعد، وتحيط بها الكثير من المشكلات والتحديات المتمثلة في الاضطرابات الأمنية وضعف البنية التحتية وبناء مؤسسات الدولة وهيمنة الجيش الشعبي وتوفير أسباب الحياة الضرورية لعشرات أو مئات الآلاف من العائدين للجنوب من الشمال، كما أنها لا تستطيع الصبر طويلاً على انقطاع عائدات البترول الذي سيكون نتيجة حتمية لأية حرب مع الشمال. ومع ذلك فإن الخطوات التصعيدية السابقة من الطرفين قد تقود إلى مواجهة عسكرية ولو لم يرغب فيها الطرفان، فكل فعل من جانب سيؤدي إلى رد فعل من الجانب الآخر، حتى ينتهي الأمر إلى مواجهة قد تكون غير مرغوبة وغير مقصودة، فالحرب كما تقول العرب أولها كلام. وأحسب أن المقترح الأمريكي بقسمة السلطة في أبيي بين المسيرية والدينكا ومن ثم ضم المنطقة إلى الجنوب بقرار رئاسي اقتراح يستحق الاعتبار الجاد من الطرفين لمشكلة في غاية التعقيد، فقد ظلت أبيي شوكة في الحلقوم منذ مفاوضات نيفاشا الأولى إلى البروتكول الذي صاغه بعد لأيٍ السيناتور دانفورث، إلى مفوضية حدود أبيي التي لم تجتمع أصلاً، إلى فريق الخبراء الذي رفع تقريراً متعجلاً ومنحازاً، إلى محكمة لاهاي التي قسمت الأرض بين الطرفين، وبعد حسم مشكلة الحدود ظهرت مسألة حق التصويت للمسيرية. وليس هناك ما يمنع أن ينتهي الحل أمريكياً كما بدأ على يد دانفورث! فالمقترح الأمريكي يمكن أن يحفظ العلاقة الأزلية بين المجموعتين السكانيتين المسيرية والدينكا اللتاين تعايشتا لسنوات طويلة في ذات المنطقة، ويمكّن المسيرية من الرعي جنوباً كدأبهم في الماضي، ويعيد الدينكا إلى وطنهم في الجنوب حسب رغبتهم ويعطيهم السلطة الأعلى في إدارة المنطقة، ويوفر دائرة انتخابية للمتطلعين من أبناء أبيي لتولي مناصب في قيادة الحركة الشعبية. ولا بأس من إعطاء من يرغب من المجموعتين الجنسية السودانية بالإضافة إلى جنسيته الجنوبية، ويعوض ذلك المسيرية أن يكونوا حكماً فيمن يفوز بالانتخابات في أبيي وما جاورها شمالاً. وأكاد أقول إنه الحل الوحيد الذي يمكن أن تتفق عليه الأطراف المتصارعة دون أن يتضرر منه أحد.