دعوهم يذهبون وترجّلوا أنتم!! رشا عوض (سنقهقه بأعلى ما فينا لو ظن تحالف جوبا بعد ذهاب جوبا أن كلمة السر في الثورة القادمة هي 9 يناير وأنها شفرة الإطاحة بالأوضاع القائمة وطبع نسخة جديدة من ثورة أكتوبر أو انتفاضة أبريل! يوم 9 يناير سيذاع البيان الآتي.. أيها المواطنون : قرر مواطنوا الجنوب بالوسيلة السلمية أن يذهبوا بأرضهم فالرجاء السماح لهم بالانصراف.. وعلى بقية المواطنين العودة لأعمالهم، وتوجيه البوصلة جنوبا لمعرفة جنوبهم الجديد!!) هذا ما كتبه الدكتور كمال حنفي تحت عنوان دعهم يذهبون ابقو أنتم بصحيفة الرأي العام في عددها الصادر يوم الثلاثاء 22 ديسمبر 2010م، وفي ذات الثلاثاء الكئيبة تلك استمعنا إلى خطاب السيد رئيس الجمهورية في شرق الجزيرة وهو يقول( الداير يقلع الإنقاذ يجرب لحسة كوعه) (حكومة قومية مافي) (لن نتراجع عن الشريعة)، والنقطة الإيجابية الوحيدة في خطابه هي الترحيب بقيام دولة الجنوب الجديدة والاستعداد لدعمها ومساعدتها، فانفصال الجنوب صار أمرا واقعا لا مجال للجدل حوله، والأفضل أن يتم بسلام وبتراضي واتفاق على الجوار الحسن لمصلحة الشعبين، ولكن هذا لا ينفي أن انفصال الجنوب دليل على إخفاق سياسي كبير في بناء مشروع وطني ناضج يستوعب التنوع والتعددية، ولا ينفي أن حزب المؤتمر الوطني الحاكم يتحمل القسط الأكبر من المسئولية عن هذا الإخفاق ولا مجال مطلقا لتقسيم مسئولية انفصال الجنوب بين المؤتمر الوطني وبقية القوى السياسية السودانية بالتساوي كما حاول حنفي في عموده المذكور، فالمؤتمر الوطني (بمراحل تطوره المختلفة) تبنى مشروعا آيدولوجيا إسلامويا ، ومثل هذا المشروع الأصولي الرافض لعلمانية الدولة بطبيعته لا يمكن أن ينجح في استيعاب تعددية دينية، والمؤتمر الوطني عندما انفرد بالسلطة لم تكن لديه أية استراتيجية للحفاظ على وحدة السودان، فقد دعم الانفصاليين في الحركة الشعبية بالمال والسلاح وتحالف معهم ضد الوحدويين، وبعد أن قبل باتفاقية السلام الشامل فرغها من أهم محتوياتها واستخدمها كأداة لاستمرار الشمولية بدلا من أن يتعامل معها كأداة لإعادة بناء الدولة وإنقاذ الوحدة، لذلك فإن الشمال بعد أن يودع الجنوب لا يمكن أن يمد يده للمؤتمر الوطني مهنئا إياه على هذه الخيبة التاريخية الكبرى!! فعندما يفقد الوطن ثلث شعبه وثلث أرضه فهذا لن يكون حدثا عابرا ليس فيه أي مؤشر لفشل وليس فيه ما يستوجب وقفة وطنية مع الذات للمراجعة والتصحيح والإصلاح، خسارتنا للجنوب لا يمكن أن تكون مثل خسارتنا لمباراة في كرة القدم أو خسارتنا ل(سبق حمير بالقلبة)!!، لا يمكن أن يكون انفصال الجنوب مجرد حدث عابر بعده يعود التلميذ لمدرسته ليجلس أرضا في فصل آيل للسقوط ويتلقى دروس المناهج العقيمة المتخلفة التي لن تنتج سوى مزيد من التخلف والعنصرية والأزمات السياسية والتنموية، ويعود جباة الضرائب والزكوات إلى عملهم المقدس في تطويق المزارعين المعسرين والرعاة الهائمين على وجوههم وذوي الدخول المحدودة بمبالغ لا قبل لهم بها فتكون النتيجة الإعراض عن الزراعة والصناعة وكل عمل منتج، ويعود كل محتال إلى (سوق مواسيره) يبيع الأوهام في بلد الأوهام هذه، ويعود كل فاسد إلى مواصلة نهبه للمال العام وعدوانه على قوت الشعب ودوائه، ويعود كل لص إلى استكمال سرقاته، ويعود كل مسئول حكومي إلى مواصلة مشروع التمكين وملاحقة القلة القليلة من الفلول غير الموالية حتى يتحقق النقاء الحزبي التام لأجهزة الخدمة المدنية والعسكرية، وتعود الشرطة بهراواتها وغازها المسيل للدموع وتكون بالمرصاد لكل من قال (أنا صاحب حق في هذه البلاد)، وتعود سياط النظام العام لتنهال على أجساد المستضعفين، ويعود حزب المؤتمر الوطني ويعكف عقب الانفصال مباشرة على تزوير انتخابات 2015 منذ الآن فهذه المرة لا مجال لفوز بأقل من 99.9999999999999999 % فقد ذهب الجنوب وأصبح كل الشعب السوداني(يصلي الستوت) و(يصوم التراويح) ويصوت للمؤتمر الوطني!!، ويعود كل موظف كبير ليأكل مما يليه، ويعود (علماء السوء) و(فقهاء السلطان) لمواصلة نفاقهم على أعتاب سلطة(الاستبداد والفساد) وتبرير ومباركة كل ما تفعل وتكفير كل من لا يبارك ويقبل التبرير!! ويعود الدكتور كمال حنفي ورفاقه من (كتّاب السلطان) ليصنعوا الشربات من كل هذا (الفسيخ الحكومي) ولا حول ولا قوة إلا بالله!! لا يمكن أن تكون هذه هي صورة الوضع القادم في شمال السودان بعد الانفصال، لا تغيير، لا إصلاح، ولا مشروعية للتفكير في أمر كهذا، ولا مجال لمناقشة الحزب الحاكم في كيفية إدارة الجزء المتبقي من السودان بعد ذهاب الجنوب، حتى لا يحذو الغرب والشرق وجبال النوبة حذو الجنوب ويغادرون وتتقلص البلاد إلى مساحة (مثلث حمدي)، ولا يمكن أن يستمر الإصرارعلى إعادة إنتاج الأزمة بإقحام موضوع الشريعة الإسلامية في الصراع السياسي، بعد انفصال الجنوب يحتاج السودان إلى مشروع للتغيير وأول خطوة في هذا المشروع هي التأكيد على أن الدولة العلمانية الديمقراطية التعددية مطلب شمالي أصيل لن يقبر بعد انفصال الجنوب، ولذلك فإننا بعد كل خطبة رنانة وبعد كل هتافات متشنجة حول موضوع الشريعة يجب أن لا نكل ولا نمل من انتزاع مصطلح(الشريعة الإسلامية) من حقل المزايدات والمساومات السياسية والتجييش العاطفي للجماهير ووضعه على منصة الجدل العقلي الموضوعي، وفي هذا الإطار من حقنا أن نسأل السيد رئيس الجمهورية ماذا يعني بتطبيق الشريعة الإسلامية؟ فعندما يقول الرئيس وهو المسئول التنفيذي الأول في الدولة إنه سوف يطبق الشريعة الإسلامية فلا بد أنه يعني تطبيق ذلك الجانب من الشريعة الخاص بشئون الحكم أو ما يعرف بالجانب الدستوري، والجانب القانوني بتفريعاته المختلفة (جنائي، تجاري، إداري) وجانب العلاقات الدولية أي كل ما يتعلق بالشأن العام وهذا الجانب من الشريعة في شكله المقنن في الفقه الإسلامي ليس وحيا إلهيا مباشرا، حيث لم يرد في القرآن الكريم أو السنة النبوية قواعد تفصيلية لنظام سياسي أو اقتصادي أو قانوني ملزم للمسلمين بل وردت مبادئ وموجهات عامة، وبالتالي هذا الجانب من الشريعة لا بد من طرحه كبرنامج سياسي وليس كشرع إلهي من خالفه خرج عن الإسلام، فما اصطلح على تسميته بالشريعة الإسلامية هو مجموعة أحكام مستنبطة أو مستنتجة من القرآن والسنة بعقول بشرية محكومة بظروف بيئتها التاريخية وظروفها السياسية والاجتماعية فهي في غالبية أحكامها قانون وضعي، يؤخذ منه ويرد، وإذا أردنا الدقة فإن الرئيس سوف يطبق الفهم الإنقاذي للشريعة الإسلامية وهو فهم بشري غير معصوم وتجوز معارضته والخروج عليه ولا مجال مطلقا للمطابقة بين برنامج سياسي وضعي والإسلام معرفا بألف ولام التعريف!! هذا يؤسس لدكتاتورية دينية، ويهدر الديمقراطية وحقوق المواطنة لغير المسلمين وللمسلمين أنفسهم لأن المسلمين ليسوا على قلب رجل واحد أو امرأة واحدة في فهمهم للإسلام ونظرتهم لكيفية تطبيقه ودوره في الحياة العامة، إذن رفع شعار تطبيق الشريعة الإسلامية من قبل رئيس الجمهورية ورئيس حزب المؤتمر الوطني إذا كان المقصود منه تحصين الوضع السياسي القائم من المساءلة التاريخية عن انفصال الجنوب وعن أزمة دارفور وعن قضايا الحريات، وإذا كان ترياقا لأي تيار ديمقراطي يسعى للإصلاح السياسي في البلاد، وإذا كان عصا غليظة لإرهاب الخصوم السياسيين فهذا سيقود البلاد إلى مزيد من الأزمات ومزيد من التشظي والتفكك.