مصطفى رحماني [email protected] الماء مصدر الحياة وينبوعها لمختلف أنواع الساكنة على وجه البسيطة، بالنسبة للإنسان والحيوان والنبات، كما ان متطلبات الحياة التقنية الحديثة لتوفير الجهود الاقتصادية منها والإنمائية يجعل من توفيره بالصورة المثالية السهلة أكثر من ضرورة اليوم. وأهم أمر في ذلك، مما يؤهلها لان يكون أساسيا خلال جميع النزاعات والحروب القادمة، نظرا لغيض الماء الصالح، وانحسار الرقعة التي يقوم نشاط الماء فيها نظرا للانعكاسات السلبية الخطيرة لظاهرة الاحتباس الحراري، وما خلفته التكنولوجيات الحديثة من استنزاف وإفراط في استغلال الطاقة الاحفورية وانتشار مفضوح لتلويث الجو والتأثير على طبقة الأوزون الغلاف الجوي الحامي لكوكبنا الأرضي، مما رفع من درجة حرارة الأرض وغير المناخ وبالتالي تراجع منسوب المياه الصالحة هنا وهناك. جدير هنا في هذا المقام تذكير الجميع بالدور الكبير الذي يمثله نهر النيل من مصدر مائي حيوي كبير، بل يرقى الأمر لمستوى اعتبار انه شريان أساسي للحياة في المنطقة وبدون منازع من إنماء الحياة وبما له من اثر على الدول التي ينبع منها والتي يتجاوز عددها ثماني دول، وباعتباره أطول أنهار العالم من حيث الطول الكلي، إذ يبلغ طول نهر النيل ما يعادل 6825 كم تقريبا. ويمتاز بعذوبة مياهه التي تعتمد عليها البلاد، التي يمر من خلالها في الشرب والسقي والزراعة والصناعة والتحويل وغير ذلك من مختلف الأنشطة الإنسانية والصناعية والتجارية منها، ومن بين تلك الدول دولة السودان باعتبارها اكبر مساحة جغرافية يجري خلالها، وقد وجد له أثر مباشر في الحضارة بين أجزاء السودان المختلفة وبالأخص علاقة الارتباط الأزلي، سواء الثقافي والاجتماعي والتباين الديني الممتد على ضفاف النيل بين جنوب وشمال السودان منذ أن عرفت تاريخ البشرية هناك الضارب في القدم. وبالطبع لا يخفي على الجميع مختلف الأطماع التي تديرها جهات تمثل النموذج الامبريالي الحديث في عالم اليوم وما تحيكه الكثير من الدوائر بين الحين والاخر في تمهيد لنشوب إحدى حروب القرن الحالي، التي سيكون أساسها تأمين المياه، وبالأخص منها العذب الذي لا يتطلب مجهودا ماليا ضخما، فهناك الكثير من الجهات التي تسعى جاهدة للحصول على موطئ قدم لمصادر المياه وكذلك الدول العظمى، التي تشتغل ليل نهار على هذا المحور، وتعمل بكل ما أوتيت من قوة للسيطرة على منابع نهر النيل العظيم ومختلف مجاريه، وتأمين محيطه، للأسف من خلال جاهزية كثير من الدول التي ينبع منها، لذلك نظرا لما تعانيه من ضعف في مقدراتها الحيوية، ولا أدل على ذلك من دولة اثيوبيا التي فتحت الباب على مصراعيه لشركات وهيئات صهيونية لإقامة مشاريع مائية متعددة، في خرق واضح وصريح لاتفاقية استغلال مياه حوض النيل الموقعة سلفا بين الدول التي تشكل حوض النيل، سواء كانت دول المنبع أو دول المجرى، وما الزوبعة التي أثيرت سالفا حول نقض هذه الاتفاقية خلال العام الحالي، باتفاق دول المنبع على خرقها والمطالبة باستحداث آلية جديدة لإعادة تقسيم هذا الريع، مما أدى إلى رفض كل من السودان ومصر حضور الآلية الجديدة، وهو ما يشكل تهديدا مباشرا للأمن الإقليمي الجواري وكذا القومي الداخلي لمجموع هاته الدول من خلال التدخلات المباشرة وغير المباشرة للأيادي الغربية، في محاولة للاستحواذ على أهم وأحسن وأسهل مورد مائي قريب من منطقة النزاع الدائر رحاها في الشرق الأوسط، وإتمام الصفقة بعد وضع يدها على منابع النفط حان الوقت دور موارد الماء. بيت القصيد في هذا كله هو المستقبل الغامض الذي ينتظر السودان الشقيق وإمكانية التمزيق التي تترصده مطلع العام القادم، خلال ما يعرف بتقرير مصير جنوب السودان الشقيق، طبقا لبنود اتفاقية السلام الموقعة بنيفاشا بين طرفي النزاع شركاء الحكم الحالي الحزب الوطني الحاكم برئاسة الفريق حسن البشير والجبهة الشعبية لتحرير السودان برئاسة سلفا كير، جنوب السودان الذي يمثل جزءا لا يقبل التجزيء من جسد الدولة السودانية كاملة ولا جسم الأمة العربية برمتها بجميع مكونات السودان وقبائله المتجانسة وهويته الثقافية المتعددة الأعراق والديانات التي تعيش في سلام وامن منذ غابر الأزمان، تعايش سلمي وانصهار أدى لوجود سحنة وملامح بشرية ذاب فيها الدم وأصبح نادراً أن يوجد لها مثيل في مكان موحد مثل السودان حول العالم قاطبة. ذلك الانصهار وتلك الوحدة تقابلت بالنقيض أمام أطماع غربية غير بريئة تقتات دوما من اللعب على وتر الحقوق والحريات وحماية الأقليات التي ترى هي وحدها ولها الحق في تصنيف من هو أقلية ومن هو غير ذلك، ومن تحق له الحماية ومن لا، وسايرها في هذا كله أبناء السودان الشقيق ممن نشروا غسيلهم خلف الأسوار وقبلوا بتدويل قضيتهم المحورية وعرضوا أمنهم القومي للخطر المحدق، ورضوا بالتمزيق عن طواعية أو كره ا بعد أن أضحت المؤتمرات الدولية الكبرى بالأمم المتحدة ومنظماتها، وبالتسميات التي يروق لهم وحدهم نعت من يرغبون بها، وحملوا المجتمع الدولي على الإذعان لها على شاكلة تنظيمات حقوق الإنسان المأجورة.. وكان لتلك الأطماع ما تريد، ووجدت ضالتها في أبناء هذا الوطن الواحد ممن انتقلوا إلى خلف البحار عارضين شكواهم في ظلم، وما قيل حينها أنه لحق بهم من ظلم وحيف من طرف الجهاز الحاكم قبضته على السودان، وتلقفت ذلك الأيدي التي تدعى العدالة الدولية والنزاهة وهي منها براء، وعلى رأسها أمريكا التي أصبحت في مهمة تصدير الديمقراطية والحقوق والحريات للدول المغلوبة على أمرها من بقايا العالم الثالث، وما يلوكه اللوبي المتنفذ في السياسة الأمريكية الدولية والمتحكم في مفاصل الاقتصاد الأمريكي بصورة مخيفة، وما نربطه هنا بالمخطط الإسرائيلي الصهيوني الذي تعمل الإدارة الأمريكية على التمكين له في إطار الصراع الدائم والمستمر في منطقة الشرق الأوسط، والقاضي بان إسرائيل الكبرى من الفرات وحتى النيل، وها قد تحقق لهم الحلم في الجزء الشرقي بعد جهد عسير، حيث تمكنوا من احتلال العراق وإسقاط نظام البعث وإعدام الرئيس الشهيد صدام حسين المجيد، وترك هذا البلد بين أيدي اللئام من أذناب الفرس وحلفائهم الصهاينة المتنفذين في القرار الدائر فوق أرض مهد الحضارة وعاصمة الرشيد. ولا ريب أن يبقى أملهم مشدودا وسعيهم دؤوبا لتحقيق الحلم من الضفة الأخرى لأن ما نشهده يدور على ساحة السودان الشقيق والحراك الكبير الذي تعرفه المنطقة خلال الآونة الأخيرة، لأكبر دليل وأعظم جوابا لكل متأمل يدرك قراءة ما بين السطور لهذه النظرية يجد أنها كادت بل أصبحت قاب قوسين أو أدنى أن تكون واقعا مريرا معاشا بين ظهرانينا من تدخل سافر بالشؤون الداخلية للسودان سواء كانت بالموافقة أو بالمواربة أو بالقوة في القرارات السيادية بالسودان نفهم بان أمريكا كمثل غيرها من الدول كانت طرفا مراقبا خلال مراحل توقيع باتفاقية السلام بين الشمال والجنوب بالسودان، إضافة لدول الطوق الإفريقية منها وخلافها الكبير مع دولة السودان المركزية، وفتح حدودها لإدخال التجهيزات والمعدات للحركة الشعبية في الجنوب، ودعمها للانفصال بطريقة أو بأخرى. إلا إن راعي الامبريالية الدولية الحديثة، وقاض مضاجع الشعوب المغلوبة على أمرها أصبح يتصرف بدون أي وازع ولا رادع وأصبحت تدخلات أمريكا في المنطقة كأنها حليف أو ظهير لهذه الجهة على تلك، وأصبح نفوذها يتعاظم يوما بعد يوم من دون أدنى مراعاة لخصوصية أو احترام حقوق الشعوب وانتظار نتائج تقرير مصيرها التي سميت بها هذه الدولة، فالملاحظ يشاهد أن جنوب السودان أضحى جزءا من هذه الإمبراطورية الجديدة المسماة الولاياتالمتحدة من خلال نضالها المستميت وكفاحها المتواصل من أجل فصل الجنوب عن السودان، وهو ما ينم عن إرادة مبيتة ونية غير بريئة قد تصل إلى مرتبة تحديد البرامج والدعم اللوجستيي ما لا يخطر على قلب أي أحد، بالنظر للدور الكبير الذي تقوم به إبان وخلال وبعد توقيع الاتفاقية ومسايرة لكل مراحل الحكم الذاتي وبعدها وصولا اليوم إلى مرحلة تقرير المصير، وعدم حياديتها المعهودة بخلط الأوراق وازدواجية المعايير التي تنتهجها في كامل سياستها الخارجية وبالتحديد تجاه دول العالم الثالث، وبالأخص منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، لما تتمتع به افريقيا التي لا تزال قارة بكرا لم تستنفد ثرواتها، وهو ما يحقق الحلم الكبير الذي يشغل عقول واستراتيجيات واضعي المخططات في الدول الكبرى فالكل يحاول جهده لإيجاد موطئ قدم له ليحصل على غنيمة ثمنية واستنزاف لثروات البلد واستغلال لخيراته وموارده. كل هذه المؤشرات التي ظهرت هنا وهناك وتطورات الملف وتداعيات تقرير المصير كانت بمثابة الدافع الرئيسي للوبي الصهيوني المتنفذ في الإدارة الأمريكية، لضرورة أن يجد له مكانا آمنا لفكره التوسعي واحتياطا آمنا لأمنه الإقليمي من خلال إقليم منابع النيل وبدأ بوضع قدميه من خلال تنفيذه للسدود والخزانات بالهضبة الإثيوبية، إضافة لدول الجوار المحيطة بالسودان، التي هي مصدر رئيس لمياه النهر النيل وما دار من خلاف في اتفاقية مياه حوض النيل في هذا العام، وتحديدا جنوبه الغني بالمياه العذبة النقية، التي لا تحتاج لكثير جهد من تكرير أو تنقية أو تحلية، حتى يضمنوا أنهم قد وضعوا أيديهم على ثروة كبيرة لا تقدر بثمن من مياه عذبة نقية لا تحتاج إلى اتفاقيات مثل غيرها من الدول التي تجلب منها المياه. ولا الظاهر الذي لا شك فيه ضرورة التكرار أن تهديدات القرن الحالي مرتبطة بشكل رئيس في ضرورة تأمين منابع المياه وكيفية الاستيلاء عليها وتطويعها وتخزينها. وهنا يبدأ السيناريو الأمريكي الصهيوني العالمي المشترك بفك الارتباط بين الشمال والجنوب وتزكية فكرة الانفصال والدعم المباشر لهم تحت مسميات حقوق الإنسان وتأجيج نار الخلاف والفتنة بين الأشقاء أبناء الوطن الواحد والعمل قدما على تحقيق انفصال الجنوب عبر برامج تدريبه ومساعدات عسكرية أو أمنية وبنيات تحتية ضرورية، بحيث تسيل لعاب الساسة الجنوبيين وتسهل تبعيتهم لهؤلاء أو أولئك ويكونون قد قدموا لهم هدية على طبق من ذهب وبصورة غير مكلفة بحساب المصالح العالمية الكبرى لضمان وصول مياه نهر النيل لهنا أو هناك والتحكم بالتالي في تدفقاته لدولة السودان من خلال خلق آليات جديدة تحكم هذا الإطار، وبالتالي إحكام الحصار على السودان وتطويعه بمختلف الأشكال ويصبح المواطن السوداني والإسرائيلي تساوي بينهم شربة ماء من مصدر واحد هو نهر النيل العظيم ويتحقق الحلم الكبير للفكرة الصهيونية من الناحية الغربية، وهو الأمر الذي تشتغل عليه المؤسسات الصهيونية منذ زمن ليس باليسير، وهي فكرة \"إسرائيل من الفرات إلى النيل\" والمرسومة على علم الكيان الإسرائيلي. ضروري أن يستجيب أحرار السودان بمختلف أطيافه وأبنائه ومقدراته لنداء الوحدة وتفويت الفرصة على المتربصين ببلدهم وأمنهم وإقليمهم وقارتهم، وان لا يقبلوا سوى بسودان واحد موحد يسلمونه للأجيال القادمة كما استلموه من أجدادهم بقدر مستوى الأمانة التي في أعناقهم ويترفعون عن صغائر الأمور الحزبية والشخصية والنزوات الضيقة، والحساسيات السلبية التي لا تزيد الطين إلا بلة، وان يضعوا نصب أعينهم المرحلة التاريخية التي يمرون بها، فالتقسيم خسارة كبيرة لا تقدر بثمن ويكون له مردوده السلبي على كافة الأصعدة الداخلي منها والخارجي والإقليمي أولها الاجتماعي والاقتصادي والجغرافي والأمني ..الخ . لا أخال في اللحظة الآنية من شعب جنوب السودان الشقيق إلا أن يفوت الفرصة على المتربصين به وبوحدة السودان وأمنه وموقعه الإقليمي والقاري، وان لا يرضخ لمختلف الإملاءات التي ترد من هاته الجهة أو تلك، ولا لمصالح هذا أو ذاك من مختلف المتنفذين في قراره اليومي، وأن يرقى به المقام إلى مستوى يضمن من خلاله وحدة التراب كما وحدة العرق والثقافة والتفكير والانتماء للسودان الشقيق وان لا يكون بوقا لمختلف القرارات التي تحاك من وراءه في الظلام وان لا يرضخ لتلك الوعود العسلية الخارجية المتشدقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان والتي بداخلها السم الزعاف والتشبث بالوعود للدول المانحة والصديقة مما يشكل نسيج أحلام وردية يتم توزيعها أثناء المؤتمرات وخلف كواليس القاعات وامام العدسات للصحافيين والقنوات الفضائية ولكن المحصلة النهائية معروفة تسويف واجترار لذلك بعد أن يكونوا قد اخذوا من السودان ما يريدون بدون مقابل سوى العض على الأصابع بحسرة وندامة وذرف للدموع الساخنة ...وحينها قد لا ينفع الندم على ما فات . *كاتب جزائري القدس