[email protected] يبدو أن غالب الناس في بلادنا, حزينون لإنفصال الجنوب عن بقية القطر. هذا ما لمسته من خلال الإستطلاعات التي أجراها التيلفزيون مع عينة من الجمهور. و هذا ما لمسته من نبض الشارع العام. علق أحد المتحدثين في التيلفزيون و قال, أن هذه الإنفعالات مجرد عواطف لا داعي لها. نعم أن الإنسان لا مفر له غير أن يحتكم إلي الواقع, و إلي ما تجري به المقادير, و لكن هو الإنسان الذي تعبر مشاعره, عن ما يجري حوله من أحداث. إن إنفصال الجنوب, حدث مهول في تاريخ السودان, قديمه و حديثه , ذلك أن إنفصال هذا الجزء عن البلد, يعني الموت. و الموت يبدأ من أطراف الجسد كما يقولون. و الخوف أن تموت بقية الأطراف, و لا يبقي من هذا الجسد إلا القليل فيموت بدوره. يقول تعالي في محكم تنزيله ( أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها و الله يحكم لا معقب لحكمه و هو سريع الحساب ) سورة الرعد , الآية 41. يقول المفسرون في تفسير هذه الآية , أن المقصود بنقصان الأرض, هو تخريبها و إهلاك أصحابها. و يكفي في هذا عبرة لأولي الألباب. في كتابه ( كنت رئيساً لمصر) تحدث المرحوم الرئيس محمد نجيب كثيراً , عن شئون و شجون مصر. أفاد أنه , بعد إنتهاء مراسم وداع الملك فاروق, في ميناء الأسكندرية , في أغسطس من عام 1952م , قال محمد نجيب, أن الملك فاروق, إلتفت إليه و قال له : ليس من السهل حكم مصر, و مضي في سبيله إلي غير رجعة, حيث سافر منفياً إلي روما و مات هناك. قال محمد نجيب, أن هذه العبارة التي تفوه بها الملك فاروق, صارت لغزاً حيره طول حياته. و بدوري أقول, ليس من السهل حكم هذا السودان و ذلك للآتي : 1/ لقد فشلت القيادات السياسية, و لا أقول النخب Power elites , لأن غالب هذه القيادات التي قادت هذا البلد, لم ينتخبها أحد, بل سطت علي السلطة بليل بهيم.بل حتي تلك التي إنتخبت , ثبت فشلها في إدارة البلد, لأنه لا تتوفر فيها صفة رجل الدولة القادر علي إدارة الأمور, بل هي شخصيات ذات تفكير رغائبيWishful thinking تجنح إلي التنظير و الكلام الكثير بدلاً عن العمل. فشلت هذه القيادات في إبتداع نموذج يصلح لحكم البلد, و الدليل علي هذا القول, أن الحياة السياسية, توقفت و تكلست, منذ السنين الأولي للإستقلال. أن غالب ما حدث من تجارب, هي مجرد محاولات فاشلة لإختراق جدار الأزمة السياسية , التي إستحكمت و نشأ عنها أزمات أخري, إقتصادية و إجتماعية, و كل ما أفلحت فيه هذه القيادات, هو إعادة إنتاج الأزمة , و لذا كتب لنا الدوران في حلقة مفرغة. الأحزاب التي يجب أن تقود الحياة السياسية في البلد, فشلت و تكلست, و صارت مجرد تنظيمات أسرية, تعيش خارج إطار التاريخ, و إتضح أنها أحزاب مصالح لفئة معينة من المواطنين, تعمل علي رعاية مصالح هذه الفئة, بدلاً من رعاية الصالح العام. لقد بينت الإنشقاقات التي حدثت في بنية هذه الأحزاب, و الهجرات التي تمت من بعض هذه الأحزاب, إلي حزب المؤتمر الوطني, إضافة إلي الإنتخابات التي جرت في أبريل من عام 2010م, بينت الحجم الحقيقي لهذه الأحزاب, التي يعلو صوتها, و لكنها تعجز عن فعل شئي مفيد في سبيل الصالح العام. 2 / لقد فشل النموذج التنموي الموروث, منذ عهد الإستعمار الإنجليزي, في إحداث تنمية حقيقية, تعمل علي رفع مستوي المواطن, و ذلك بسبب سوء التخطيط و ترتيب الأولويات, و عدم العدالة في توزيع الخدمات بين الأقاليم , إضافة إلي الفساد, الذي أعاق الجهود التي بذلت لتقديم شئي مفيد , و التململ الذي يحدث, في بعض الأنحاء, هو دليل علي هذا. 3/ غياب الحريات السياسية, في ظل الحكومات العسكرية التي حكمت البلد, ثلاثة مرات, أدي إلي تكلس الحياة السياسية, و إعاقة الجهود التي بذلت لتقديم شئي لمصلحة البلد, بسبب الفساد الذي إستشري, في ظل غياب المحاسبة و الرقابة. لقد أدي هذا الوضع بدوره, إلي هذا التململ الإجتماعي, و ما نتج عنه من مشكلات أخري. لكن عندما نتحدث عن الحريات السياسية , يتعين علينا, أن نضع خطاً فاصلاً بين الحرية و الفوضي. إن ما عاشته بلادنا من فوضي, في عهد ما سموه الديموقراطية الثالثة, هو أوضح دليل علي هذا الخلط بين مفهومي الحرية و الفوضي, و أنتج وضعاً شاذاً تضررت منه البلد. و في هذا الصدد يثور تساؤل : هل تعود الفوضي هذه إلي تنشئتنا الإجتماعية, و طبيعة البداوة الكامنة في نفوسنا ؟ أم هي تعبير عن الكبت الذي كانت تعيشه البلد في عهد الحكم المايوي ؟ هذه العوامل الثلاثة المذكورة و غيرها, تشير إلي فشل القيادات السياسية , في بلادنا في تقديم نموذج صالح لحكم البلد, و هذا ما يبدو من أحداث نتجت عن هذا الفشل . و كمثال علي هذا الفشل, أن القيادات السياسية, رفضت مقترح الكونفيدرالية كصيغة لحكم الجنوب, و ذلك غداة الإستقلال, ثم عادت بعد خمسون سنة لتتحدث عن هذه الصيغة , و لكن كان الوقت قد فات. و ها هي النتيجة بادية للعيان, إنفصال هنا و تململ هناك. ما العمل ؟ ليس من السهل حكم السودان كما قلت, و لكن في نفس الوقت أقول , أنه ليس من المستحيل إيجاد النموذج المناسب للحكم. هذا إذا توفرت الرغبة و الإرادة لذلك. و يعني توفر الرغبة و الإرادة, أن يتوافق الجميع, حكاماً و محكومين, علي وضع هذا النموذج المناسب, و الإعتبار بما حدث. و هذا سبيله : 1 / ضرورة تحقيق العدالة في توزيع الدخل القومي, بين الأقاليم , و يتم هذا عن طريق التخطيط السليم و ترتيب الأولويات. 2 / توفير الحريات السياسية و إشاعة الديموقراطية في المجتمع. 3 / محاربة الفساد بكل صوره, و ضرورة إصلاح الجهاز الرقابي و القضائي, ليقوما بدورهما في تحقيق العدالة و بناء الحكم الصالح. 4 / تدعيم منظمات المجتمع المدني, التي تعمل كذراع مساعد في نشر ثقافة الديموقراطية , و القيم الفاضلة في المجتمع. إن ما ذكرته عاليه و غيره , يدور في إطار ما يسمونه الحكم الصالح Good governance . بدون بناء الحكم الصالح هذا, سنظل ندور في حلقة مفرغة In vacuum , و نعيد إنتاج الماضي بسوآته كل حين , حتي نحترق من كثرة الدوران في الحلقة المفرغة. الرياض / السعودية