الطيب صالح.. وشغل الناس (3) الصادق المهدي الشريف [email protected] انتهزنا فرصة تكريم شركة زين للاديب الطيب صالح، ودلفنا الى الحديث عن نظرية (الحيوية) او (التحليل الفاعلي) التي وضع أسسها الدكتور الشيخ محمد الشيخ. وقلنا في حلقة الأمس أنّ شخصية الزين في رواية (عرس الزين) إستطاعت أن ترتقي من بنية الوعي التناسلي المسيطرة على مجتمعها الى بينة الوعي الخلاق التي (تنتج الخير وتوزعه على البشر دون إنتظار لرد الجميل). ولكن المستر مصطفى سعيد بطل رواية (موسم الهجرة الى الشمال) كان شخصاً مختلفاً، إمتلأ قلبه بالحقد على الإنجليز الذين إحتلوا السودان، وأذاقوا أهله (ومنهم عائلة الراوي) الويلات. فاراد أن ينتقم منهم. سافر الى القاهرة ثُمّ الى بريطانيا، وتعلم هناك حتى أصبح اسطورة يتكلم عنها الإنجليز أنفسهم، وقد كان إعجابهم بقدراته صادقاً، وليس مثل أن تُعلم قرداً بعض الحركات البهلوانية، ثمّ تُعجب به، يقول مصطفى سعيد عن نفسه (أقرأ الكتاب فيرسخ جملة في ذهني، ما ألبث أن أركز عقلي في مشكلة الحساب حتى تنفتح لي مغاليقها، تذوب بين يدي كأنها قطعة ملح وضعتها في الماء. تعلمت الكتابة في أسبوعين، وانطلقت بعد ذلك لا ألوي على شيء. عقلي كأنَّه مدية حادة، تقطع في برود وفعالية، لم أبال بدهشة المعلمين وإعجاب رفقائي أو حسدهم. كان المعلمون ينظرون إلي كأنني معجزة). ذهب الى أوربا وهو يحمل في داخله الرغبة في الإنتقام من الإنجليز الذين اذاقوا أهله الهوان، بدعوى التعمير ونقل الحضارة. لكنّه ذهب وتعامل معهم بأدوات مجتمعه ذو بنية الوعي التناسلي، الذي يرى الشرف في غشاء البكارة، والعارُ في غيابه. فأراد أن يلحق العار بالإنجليز من خلال مفهومه للعار. وقضى كلّ عمره في لندن ليحقق هذا الهدف (ثلاثون عاماً. كان شجر الصفصاف يبيض ويخضر ويصفر في الحدائق، وطير الوقواق يغني للربيع كل عام. ثلاثون عاماً وقاعة البرت تغص كل ليلة بعشاق بيتهوفن وباخ والمطابع تخرج آلاف الكتب في الفن والفكر. مسرحيات برنارد شو تُمثل في الرويال كورت والهيماركت. كانت ايدث ستول تغرد بالشعر، ومسرح البرنس اوف ويلز يفيض بالشباب والألق. البحر في مده وجزره في بورتسمث وبرايتن، ومنطقة البحيرات تزدهي عاماً بعد عام. الجزيرة مثل لحن عذب، سعيد حزين، في تحول سرابي مع تحول الفصول. ثلاثون عاما وأنا جزء من كل هذا ، أعيش فيه، ولا أحس جماله الحقيقي، ولا يعنيني منه إلا ما يملاً فراشي كل ليلة). كلُّ ليلة كان مصطفى سعيد يحاول أن يلحق العار بالإنجليز، بالنوم مع فتياتهم. يصطادهنَّ بعقله الذي يعمل كالمدية... ببرود وفعالية. ولكنّ أكتشف أنّ كلّ فتاة ينامُ معها، لا يهتم أحدٌ بأمرها، لأنّ المجتمع ذوبنية وعي مختلفة، وهي بنية الوعي البرجوازي. وتعريفه واضع النظرية لهذا المجتمع هو أنّه: الذي ينشأ الأفراد فيه على أنّ جمع خيرات الحياة المادية هي الهدف النهائي من الحياة. وإذا كان التناسل يعيق هذا الهدف ف(لا للتناسل)، وإذا كانت العلاقات الإجتماعية تعيق الهدف، ف(لا للعلاقات الإجتماعية). والمجتمع نفسه يضع تقييماً عالياً لمن يستحوذون على أكبر قدر من الخيرات المادية (شركات – حسابات مصرفية –عقارات - ...). فالشرف هو المال وليس البكارة. لهذا فشل مشروع مصطفي سعيد الإنتقامي، وأصيب بالخمود، وهو عدم الرغبة في الحياة، فحين تمت محاكمته (رأى المحلفون أمامهم رجلاً لا يريد أن يدافع عن نفسه. رجلاً فقد الرغبة في الحياة. إنني ترددت في تلك الليلة حين شهقت جين مورس في أذني:تعال معي.. تعال. كانت حياتي قد اكتملت ليلتها، ولم يكن ثمة مبرر للبقاء). التيار