شاهد بالفيديو.. (ما تمشي.. يشيلوا المدرسين كلهم ويخلوك انت بس) طلاب بمدرسة إبتدائية بالسودان يرفضون مغادرة معلمهم بعد أن قامت الوزارة بنقله ويتمسكون به في مشهد مؤثر    شاهد بالفيديو.. مطرب سوداني يرد على سخرية الجمهور بعد أن شبهه بقائد الدعم السريع: (بالنسبة للناس البتقول بشبه حميدتي.. ركزوا مع الفلجة قبل أعمل تقويم)    شاهد بالفيديو.. مطرب سوداني يرد على سخرية الجمهور بعد أن شبهه بقائد الدعم السريع: (بالنسبة للناس البتقول بشبه حميدتي.. ركزوا مع الفلجة قبل أعمل تقويم)    الخرطوم وأنقرة .. من ذاكرة التاريخ إلى الأمن والتنمية    السودان يعرب عن قلقه البالغ إزاء التطورات والإجراءات الاحادية التي قام بها المجلس الإنتقالي الجنوبي في محافظتي المهرة وحضرموت في اليمن    "صومالاند حضرموت الساحلية" ليست صدفة!    مدرب المنتخب السوداني : مباراة غينيا ستكون صعبة    لميس الحديدي في منشورها الأول بعد الطلاق من عمرو أديب    شاهد بالفيديو.. مشجعة المنتخب السوداني الحسناء التي اشتهرت بالبكاء في المدرجات تعود لأرض الوطن وتوثق لجمال الطبيعة بسنكات    تحولا لحالة يرثى لها.. شاهد أحدث صور لملاعب القمة السودانية الهلال والمريخ "الجوهرة" و "القلعة الحمراء"    الجيش في السودان يصدر بيانًا حول استهداف"حامية"    رقم تاريخي وآخر سلبي لياسين بونو في مباراة المغرب ومالي    شرطة ولاية القضارف تضع حدًا للنشاط الإجرامي لعصابة نهب بالمشروعات الزراعية    استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وراء تزايد تشتت انتباه المراهقين    بدء أعمال ورشة مساحة الإعلام في ظل الحكومة المدنية    ما بين (سبَاكة) فلوران و(خَرمجَة) ربجيكامب    ضربات سلاح الجو السعودي لتجمعات المليشيات الإماراتية بحضرموت أيقظت عدداً من رموز السياسة والمجتمع في العالم    قرارات لجنة الانضباط برئاسة مهدي البحر في أحداث مباراة الناصر الخرطوم والصفاء الابيض    مشروبات تخفف الإمساك وتسهل حركة الأمعاء    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    استقبال رسمي وشعبي لبعثة القوز بدنقلا    نيجيريا تعلّق على الغارات الجوية    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    قبور مرعبة وخطيرة!    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النيل الأزرق.. رأيت الحرب (2)ا
نشر في الراكوبة يوم 17 - 03 - 2011


النيل الأزرق.. رأيت الحرب (2)
بقلم : عثمان فضل الله
[email protected]
كل صورة فى النيل الازرق تحكي رواية مختلفة ولكن مكتب والي الولاية يلخص الامر بشكل كامل. مجموعة من الشباب يحتلون مكتب الاستقبال. سحناتهم تدل على أنهم من إثنيات النيل الازرق المختلفة. السكرتيرة تنبهك الى أن تضع نقطة وتفتح سطرا جديدا فهي ظلت في وظيفتها رغم أن آخرين وفقا لما علمت سعوا الى إقصائها لأنها تنتمي اجتماعيا لأسرة يرون أنها موالية للمؤتمر الوطني. أكبرت هذه في (عقار) وإن لم أشأ سؤاله عنها.. المكتب الذى يمتد لعدة امتار يعطيك من الداخل انطباعات مختلفة تشعر فيه البساطة ولكن ما أن تتذكر (ياغلن) وهى قرية تعيش خارج التاريخ تحسه مترفا حد التقيؤ، لا تناسق كبير بين أثاثه. كل مجموعة متنافرة مع الأخرى كما خارطة الولاية السياسية. استغرقت في قراءتها لثواني معدودة، ولكن مالفت انتباهي جملة بالانجليزية منسوبة ل(عقار) ولكن لا أدري أين قالها معلقة في إطار مذهب على الجدار بحيث لا تدع لك مجالا إلا أن تقرأها قبل أن تلقي التحية عليه. تقول (ليس كافيا للمتحرر أن يحرر نفسه، لاستدامة حريته يجب أن يحرر المضطهد)...
ودعت عقار وأنا على قناعة بأن الرجل مفتوح النهايات ومرتفع السقوفات مسنود بواقع تسهل دغدغة المشاعر فيه، هل ظلمت الرجل فعلا؟... وهل عيب أن تتبنى حركته خطابا قائما على قضايا الناس؟... مجموعة أسئلة ازدحم بها رأسى. وجدت نفسي متعاطفا معه حينا وحانقا عليه حينا آخر، ما بال هذه المنطقة تربك الحسابات للدرجة التي لا تستطيع أن تحدد من هو البطل ومن هو الضحية فيها.
تشابك يحتاج إلى تفكيك
\"عقار يقود الولاية الى صراع مفتوح مع المركز\". هكذا قال محدثي وأردف: \"يستخدم خطابا عاطفيا يتمثل في استغلال المركز لموارد الولاية دون مراعاة للنتائج المترتبة على هذا النوع من الخطاب. يتحدث للناس بلغة ويقود الولاية بلغة مختلفة، فعقار يعلم تماما أن الولاية لا يمكن أن تستغل او تقوم بذاتها لأن مواردها منذ العام 2005 م لم تتعدَّ 6%؛ بينما قفز البند الأول فيها من اربعة مليارات ونصف الى مايفوق 11 مليار جنيه\". طفر الى ذهني سؤال آخر. وماذا فعل المركز ليتحاشى الصراع. ليس مع عقار ولكن مع المناصرين لوجهة نظره حتى وان كانوا قليلي العدد؟... جرى السؤال على لساني أمام الرجل الذي انتبه قائلا: \"أنا لا أتحدث لك بصفتي الحزبية وأرجو ألا تنشر الحديث الذى سبق مسنودا اليّ، احترمت وجهة نظرة ولملمت بقية اسئلتي وتوجهت صوب حي (عشرة بيوت) حيث دار المؤتمر الوطني التي توحي بأنها كانت فى يوم غير هذا (دار عزيز قوم). كل شيء فيها ينبئك بثراء الماضي وفقر الحاضر، مجموعة من الشباب يتبادلون الحديث بصوت من علوه يشعرك أنك في سوق أكثر منه في دار لحزب حاكم في غير هذه الولاية، دلفنا الى مكتب رئيس المؤتمر الوطني عبدالرحمن ابو مدين، لي مع الرجل سابق معرفة إن لم تكن وطيدة فهو من الشخصيات التي تجبرك على احترامها مهما اختلف الناس حوله، رميت بسؤالي فى وجهه. هل أعلن المؤتمر الوطني الحرب على عقار؟... فرد قائلا: \"(الوطني) لم يعلن الحرب على أحد ولكن هناك أناس يعلنون الحرب على أنفسهم، فعقار يخطط لفصل النيل الأزرق ويعمل وفق خطة محددة تتمثل في حشد الناس للحكم الذاتي والذى يعني بالضرورة تجييش الناس لصالح الانفصال، وهم يعملون- والحديث لابو ميدين- وفقا لمقولة (قرنق) التى خاطب بها أهل النيل الأزرق قائلا (المشورة الشعبية هي جنى صغير بتاع تقرير المصير) وبالتالي عقار بخطابه هذا يسعى لتربية وتقوية المشورة الشعبية حتى تصل الى تقرير المصير ومن ثم الانفصال\"... قاطعته: \"هل ما تقول به معلومات أم أنه تحليل؟\"... فاجأني ابو مدين قائلا: \"(معلومات وكررها ثلاث) ثم استرسل قائلا: \"عقار بقول الكلام ده لى ناسو في تنويراتهم بخطط لفصل النيل الأزرق وإنشاء ثلاث ولايات...\"
إذن الوطني يرتاب فى نوايا الرجل. طفرت الى ذهني عبارة جرت لأحد منسوبي الحركة كان حاضرا لمؤتمر عقد فى الكرمك لقبائل النيل الازرق وهو يحكي بعفوية عن ذلكم المؤتمر وإعجابه اللامتناهي بوالي الولاية قائلا: \"استعرض عقار خريطة السودان موضحا عليها حدود دولة الجنوب وحدود ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، وقال انظروا ماتبقى من السودان لم بيق لهم شيء). وضحك الشاب الذى احتفظ باسمه، ووجه حديثه لي باعتباري ممثلا للمركز (والله بدونا خريطتكم شينة شنا)..
إذن لحديث ابو مدين أصل. عقار فى إجابته على سؤالي حول ماذا كان يخطط لفصل النيل الأزرق؛ لم تشفِ غليلي، ولم تضئ المنطقة المظلمة بين الحزبين، لكنها في ذات الوقت تحتمل النقاش، فالرجل بحسب إجابته هو رهين برفع الظلم عن أهله قائلا إن الذين ينظرون للحكم الذاتي باعتباره نواة للانفصال بأنه قراءة: (دي قراية وانت لاتحجب على الزول بأن لايقرأ مابين الخطوط ولكن نحن لم نتحدث عن الانفصال حتى الآن ولا توجد بوادر للانفصال، والانفصال له مسبباته وله معيناته وأنا لا أرى معينات للانفصال فى ولاية النيل الازرق، الحكم الذاتي حق ونحن بنطالب بيهو وأنا لا أريد أن اتنبأ بالمستقبل، الحكم الذاتي حق لكل ولايات السودان، وإن كانت الولايات الأخرى لا تريد ممارسته نحن في النيل الأزرق عايزين نمارسه، ولا يحق لأحد أن يقول نحن رافضينو، ده حق وطرح، انت اقنع الطرف الآخر بعدم جدواه).
إذن النتيجة مفتوحة والأرض خصبة وللوطني الحق في الخوف من تكرار تجربة الجنوب ولعقار كما قال الحق في أن يرفض حكما من الخرطوم في القرن العشرين، فمن هو المخطئ ومن هو المصيب؟... ألم أقل لكم إنها ولاية تصيبك بالدوار وتفقدك الأرضية التى تقف عليها؟.
هكذا هي الحياة:
أطفال عراة منتشرون فى كل مكان، أحدهم يعبث بما أخرجته بطنه بأي من السبيلين لا أدري.. كل شيء هنا يفقدك التركيز ويدفعك دفعا لاستعجال الرحيل او استقبال الجنون, أغمضت عينيّ في تكاسل متعمد عسى أن افتحهما وأجد أن كل الذى أراه أمامي مجرد خيال، ولكن للانسان أكثر من حاسة، طاردتني الروائح الكريهة المنبعثة من هذا المكان الذي لم يعرف النظافة أبدا، اجتزنا مدخل القرية الى وسطها. كان أكثر نظافة، ولكن الأشخاص هم ذاتهم. عيون زائغة. أجساد أعمل الدهر فيها قسوته. عيون يختلط فيها الرجاء بالتحفز، الشر بالخير، الأنفة بالانكسار، مجموعة من الرجال متحلقون أمام هذه القطية. نهضوا جميعهم فى حماس لاستقبالنا. أمامهم بعض الأوانى البدائية تحمل فى جوفها مشروباً ما، أجزم من هم برفقتى أنه (مريسة) وساندتهم في ذلك أنفي وإن لم تراه عيني، المجلس يدل على أنه اجتماع لحل مشكلة ما، فالرجل الذى يحمل فى يده أوراقا أصر على البقاء فى مكان يمكنه من الاستماع الى ما نقول بعد أن قادنا العمدة الى موقع آخر غير مقر الاجتماع، أجلت بصري في هذه القرية التى لا تبعد عن الكرمك سوى ثمانية كيلومترات ولكن قطعتها العربة في ما يقارب الساعة فالطريق ليس وعرا فحسب ولكنه شيء آخر. لا أجد له وصفا دقيقا، أكواخ متراصة على مد البصر لا يفصل بين الواحد فيها والآخر سوى حاجز رفيع مصنوع من الحشائش الجافة لا أدرى ماذا يسمونه وإن كنا نطلق عليه حيث ولدت (الصريف) ونستخدمه في أمر مختلف أتعمد عدم ذكره حتى لا أكون قاسيا على هؤلاء الناس الذين كل ذنبهم أنهم ولدوا في هذا المكان.
ذات اللغة:
اللغة نفسها التي سمعتها من قبل. \"لاشيء أضافته اتفاقية السلام سوى وقف هجمات (الانتنوف)\". يقولونها بحرقة كاملة وأشعر أنا الذى زرت هذه الولاية إبان فترة الحرب أنها إضافة كبيرة، كنا حينها ونحن في الدمازين نشعر بالخوف ولكن (الماضي لايصبح ماض أبدا)، فالماضي هو الذى يصنع الحاضر، مابالي أذهب فى حديث يقودني الى دروب أخرى. فقط أردت أن أقول في ذلكم الوقت كنا نشعر بالخوف مثلنا مثل كل من يقطن في هذه الولاية وعايش تلكم الأيام، لم نحس بالغربة. أشعر الآن أني غريب غير مرغوب فيه، بعضهم يقولها لك صراحة مثل الشفيع: (والله انت لو ما كان معاك مسؤول كبير ده بشكلك ده ما كان قعدت هنا) وآخرون أكثر تحضرا أو قل تأثرا بالسياسة يحملون الحكومة المسؤولية ولكن ما أن يسترسلوا في الحدبث حتى تتفلت عباراتهم الحارقة (كهربا بتاعنا ده شو شو شو يمشى فوق راسنا عشان ينور هناك في الخرطوم ونحن في الضلام اهو قاعدين، كل خيرات ولاية بتاعنا ده تمشى لناس تانين ده موضوع ذاتو خلى ناس بتاع نيل اسرق ديل يشيلوا سلاح) هكذا حدثني العمدة محمد فضل المولى كومة جابر عمدة قبيلة الدوال في مقاطعة الكرمك _ كم هو تأثير الجنوب كبير حتى في المسميات _ كومة الذى ظل يتحدث عن محلية الكرمك باسم مقاطعة الكرمك بدا حانقا على الخرطوم شاعرا بغبن جعله يتشكك حتى فى حصوله على التمويل من البنوك قائلا: (حكومة ده ما بدينا هاجة حتى التمويل الزراعي البجى في الدمازين ده هم بيجوا يتقسموا!) سألته عمن هم الذين يتقاسمون التمويل. أجاب بسرعة (ناس بيجو من برة ولاية بتاعنا ده نحن ما نعرفهم)، (من يسير من؟) سؤال ظل يطن في رأسي وأنا أستمع الى إفادات كومة. هؤلاء يسيرون عقار أم عقار هو من يملأ صدورهم قبل رؤوسهم بهذا الغبن؟... أم أن الشحن متبادل. إحساس كبير بالظلم له مبرراته الواضحة؟... كل شيء يحاصرك. يجعلك لاتلوم أي منهما إن كان يعبئ الآخر فالأمر لا يطاق. قطعا حياة قاسية لا يمكن احتمالها لشخص فى وعيه الكامل، هل لهذا يعاقر الناس هنا (المريسة)؟. ظننت أن ذلك كذلك. لكن عيسى الشاب الثلاثيني الذى يمتلك محلا لبيع الموبايلات فى سوق الكرمك والذى لايقل عنهم غبنا غير أنه يخرجه بدبلوماسية فائقة صحح لي المعلومة: \"(المريسة) هنا غذاء مثلها وبقية الأغذية لا يشربونها لأنها مسكرة فقط. هم يعتبرونها مغذية ولهم فيها مآرب أخرى\"، فصلها ضاحكا. ودعنا كومة ليعود الى جلسته بعد أن حمّلنا تهديدا مغلظا لأحد الصحافيين _ وقرن اسمه بالانتباهة التى لم يكتب فيها يوما ولكنه انتباهة قائمة بذاتها _ بأنهم إذا وصلوا الخرطوم سيكون هذا آخر أيامه في الحياة لأنه كتب أن قبيلة الدالو تأكل الكدروك (الخنزير) وأنها تذبحه وتبيع الكيلو من لحمه بخمسين جنيها. وأردف (انتم جيتو شفتو كدروك هنا، زول بتاع انتباهة ده يكتب نحن بناكل الكدروك؟ كيف يعني؟ نحن مسلمين ناكل لحم الكدروك؟)، طيبت خاطره بعبارات لا أظن أنها كانت مفيدة، كم هي قاتلة أخطاؤنا، نطلق الحديث ولا نلقي له بالاً فيكون وقعه قاسيا. ألا يكفيهم الظلم والظلام الذى هم فيه لنضيف عليه جديدا. لا يدري (كومة) أن صحافة الخرطوم مليئة ومترعة بكل ماهو غث ومتعفن. إنهم ياسيدي بهذه الترهات يحشون جيوبهم ويضخمون كروشهم ويتطاولون في البنيان. لم أترك لعباراتي الأخيرة أن تجري على لساني حتى لا أزيده بأن الأمر يتعدى ما تقول. فالخرطوم لاتضيء عماراتها بكهربائكم فقط ولكنكم مصدر لثروتها بطرق مختلفة وكل حسب ماسخر له.
جرط عرب وقصة أخرى:
غادرت العربة جرط شرق باتجاه جرط غرب، ولم يغادرني حديث العمدة (كومة) وهو بقول (التعليم ده فيهو مشكلة كبير جدا. التعليم الموجود ده ما تعليم في حاجات زي مقصودة بتحصل. الجنى هسي شان يوريك البكتبوا ده ما بيعرف، العيب بظهر متين؛ عشان يمتحن للثانوي ما بيقبلو) هكذا نصا دون تدخل مني عبر عن مشكلة التعليم كما يراها. استشعرت أن للرجل رأي خطير بأن هناك خطة وعمل مدبر ضدهم بأن يترك أولادهم دون أن يتعلموا شيئا ويتضح الأمر لهم عند امتحان الثانوي إذ لا يقبل منهم أحد.
مابين (الجرطين) جبل يحمل اسم المنطقة ذاتها، ولكن المسافة الواجب علينا قطعها تهد حيل أجود الصناعات اليابانية. وصلنا الى مقصدنا قبل غروب الشمس بقليل. القرية لا تختلف عن (سميتها) في شيء. ذات الناس وذات العيون ولكن ربما تكون هنا الجفوة بائنة في استقبالنا. سمعنا بها من رفيقنا فى هذه الرحلة الشاقة النذير ابراهيم العاقب الذي آثر هجر الصحافة ليعمل مستشارا لوالى النيل الأزرق... (نصرة) امرأة سبعينية تشعرك طلتها بالراحة؛ رغم الوجوه القاسية التى تحيط بها والمشاهد المزرية التى تفقد قلبك حسن التبصر عندما تقع عينك عليها. استقبلتنا برشاقة وخفة بنت العشرين وهى تردف: \"اتفضلوا مرحب مرحب\"، عبارات لاتعشم في سماعها بهذه القوة هنا، إنها خالة النذير التي لم يراها وتراه في حياتهما سوى مرة واحدة وهذه الثانية. مجموعة من الأطفال يلهون فى المساحة التى تتوسط ثلاث قطاطي مشيدة من القش بالكامل مضاف اليها واحدة أصغر يسمونها هنا بالقسيبة وهى بحسبهم عبارة عن مخزن لمؤونة العام التى ينتجونها من ذرة ولوبيا وويكة. قادتنا وابنها الى أكبر القطاطي حجما. أسرعت في جلب مجموعة من العناقريب وكراسي من البلاستيك يبدو أنها لا تخرج إلا لإكرام ضيف عزيز، بعد أن جففت دموعها بدأت في سرد قصتها. داية منذ ما يقارب الخمسين عاما فهي بحسب روايتها تعمل منذ أن كان الحاكم هو عبود. هكذا قال ابنها فهي لا تعرف للحكام أسماء. تجوب مساحة لا تقل عن المائة كيلو متر ليلا ونهارا على أرجلها لأنها الداية الوحيدة في المنطقة. تغطى خمسة قرى سمتها لنا أقربها يحتاج لمسيرة ساعة بالأرجل وأبعدها قد يستغرق الوصول اليه ساعتين ونصفهما. قالت إن بعض الولادات تتزامن مما يضطرها إلى قطع المسافة بين الحالة والأخرى أكثر من مرة. بدأت صور فتيات الخرطوم الناشطات فى مجال الدفاع عن حقوق المرأة تتضخم أمامي. هل سمعن بمثل هذه المعاناة؟... هل يعرفن أن امرأة في هذا المكان النائي تفعل كل هذا؟... وفوق هذا فهو عمل مجاني لا تتقاضى عليه أجرا. (قروش منو هو ده عندو قروش عشان يديني، يا وليدى الناس هنا تعبانين خلاص، مافي زول عندو قروش، أنا بعمل عشان الجنة، الله وحدو هو يديني أجري، أنا بس بتعب خلاص عشان القى قروش حجار بتاع بطارية البشيلو بالليل).
ودعنا جرط بشقيها بعد أن أصبحت بحرا من ظلام دامس، فالشمس هنا مبعث الحياة بمعنى الكلمة. كل شيء سكن تماما عدا مجموعة من الكلاب ظلت تنبح منذ دخولنا الى القرية، وصوت عربتنا التي اشتكت مدير شركة أفراس أمير إلى الله، وأظن قائدها صلاح الأمين فعل الشيء نفسه لاختيارهم له لمرافقتنا هذه الرحلة. شعرت وأنا أغادر جرط أن لعقار سند من الطبيعة والشر معا، فهولاء الناس ليسوا كما يتخيل البعض بسطاء، وعيهم السياسي مرتفع جدا. يحدثونك عن حقوقهم المهدرة ويعددونها بلسان واحد. من يسكن منهم المدينة وهذا الذى يسكن في القرية الشاب منهم وذاك الذي تعدى عمره السبعين كما الحاجة (نصرة).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.