[email protected] نتأمل حال مؤسساتنا التعليمية وما تضمره من توجس وتفاد للواقع الرقمي، فنتذكر عندها نوبة الذعر المماثلة التي اجتاحت أغلب العاملين في قطاع التعليم، في الجزء الآخر من العالم، إثر ذيوع المصطلحات التي قام بنحتها الكاتب والتربوي الأمريكي مارك برنسكي، عام 2001م، و خصوصاً بعد أن استخدمها عدد مقدر من الكتاب الأكاديميين، مثل جوش سابير، وآرون دوغنان، فشاعت، وفشت، وطار صيتها، وأصبحت تستخدم، بكثافة، في وضع البحوث والمقالات العلمية في مجال التربية والتعليم. فبرغم النقد الجانح أحياناً، والذي تعرضت له هذه المصطلحات ، وما أثارته من حوارات وجدالات وتحفظات، حيث بدت، في نظر البعض، فضفاضة، وشديدة الارتباط بالشرط الاجتماعي الذي قد لا يتطابق، بالضرورة، مع كل الفئات العمرية التي حددها برنسكي، إلا أنها أسهمت بالفعل في إحداث انعطافات حاسمة على مستوى علوم التربية وأصول التدريس وتصميم المناهج. من أهم هذه المصطلحات مصطلحان هما بمثابة التؤامين الضدين: (السكان الأصليون الرقميون Digital Natives) و(المهاجرون الرقميون Immigrants Digital)، كدلالة على أجيال محددة من الدارسين، وانعكاس ذلك على معارفهم وخبراتهم التكنولوجية والرقمية. وحسب برنسكي فإن الأجيال ما قبل الرقمية تقع بين الأعوام (1961-1981م)، فيصنفها تحت مصطلح (المهاجرون الرقميون) الذين هم، في هجرتهم الرقمية، تماماً مثل المهاجرين لبلاد أخرى، تفضحهم لكنتهم المختلفة، فيتوجب عليهم، من ثم، الاجتهاد في التكيف مع الأرض الجديدة، واكتساب لغتها، وعاداتها، ومعارفها الحياتية. أما (السكان الرقميون الأصليون) فهم الفئة المولودة من عام 1982م فصاعداً، ولذا فهم يملكون اللغة والخبرات والمعارف الرقمية بشكل تلقائي، تماماً كحال سكان البلاد الأصليين، أهل ثقافتها ولغتها. وإذن فإن (السكان الرقميين الأصليين) هم الشباب أصحاب الخبرات الرقمية الأصلية، كونهم ولدوا وبين أيديهم الغضة صنوف من الكومبيوترات، والجوالات، والمودمات، والشبكات، والبرمجيات، والشرائح الذكية، والكاميرات والألعاب الرقمية متعددة الأبعاد، وذاكرات الفلاش التي تتدلى من الأعناق كالتمائم؛ وهي تقانات تمثل جزءاً أصيلاً من ممارساتهم الحياتية اليومية. ويخلص برنسكي من ذلك إلى وجوب مراعاة هذه الحقائق، واستثمارها في تصميم استراتيجيات وأهداف ومناهج التعليم ووسائله، كما وفي تحديد نوعية المعلم وخبراته وتدريبه المهني. فالسلالة الرقمية الجديدة، الموجودة حالياً في المؤسسات الأكاديمية، لا يتوقع منها أن ترتهن لأي منهج أو أسلوب تقليدي يتجاهل ملكاتها وطاقاتها، ويجهض تطلعاتها واحتياجاتها، ويزج بها في كهوف ما قبل التاريخ الرقمي، ما يعني، بالضرورة، أن مجال التعليم قد لا يتسع لمن لا يملك (سيولة رقمية)،وهكذا فانه ينبغي على المعلمين، وبخاصة في المؤسسات الجامعية، مواجهة الأمر، والتكيف معه، بأكبر قدر من الاستعداد الذهني والنفسي، بدلاً من التمادي في إنكاره، أو محاولة تفاديه، أو الاستسلام المرضي ل (الرهاب الرقمي)، لا سيما وأن أغلب هؤلاء ينتمون إما للأجيال ما قبل قبل الرقمية، أو، في أفضل الأحوال، لفئة (المهاجرين الرقميين)، وهو تضاد حاد دُقت له الأجراس في أنحاء العالم، فشُجّعت وأطلقت المباحث العلمية التي تتقصى طبيعة الدارس الرقمي، واحتياجاته، وتوقعاته المختلفة، لأجل إعادة تصميم الفضاء الدراسي بما يناسبه من لوجستيات وموارد وكوادر بشرية؛ وقبل ذلك، بالطبع، تأسيس بنية الكترونية تحتية تزود المؤسسات الأكاديمية بتجهيزاتها المتنوعة، وإعداد برامج تدريب مستمر للمعلمين أنفسهم، أثناء الخدمة، ليتمكنوا من الطفو، وركوب الموجة الرقمية، كيلا تكتسحهم، فيغرقون!