توكل كرمان: جدل الأصالة والحداثة (نوّارة الربيع العربي المنتشية بالندى) د.عبد الماجد عبد الرحمن ( [email protected]) يا دامي العينين والكفين , إن الليل زائل ! لا غرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل ! نيرون مات, ولم تمت روما بعينيها تقاتل, وحبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل ! (محمود درويش) ● في بدايات الربيع العربي , كتبنا أنه حركة تاريخية من الوزن الكبير, وظاهرة معقدة بامتياز. وانتقدنا التحليلات المسطحة التي تحاول جر ظاهرة شديدة التركيب, إلي حلبة نظريات تحليلية تبسيطية أحادية بئيسة. ومن ذلك تبسيطيات \"المؤامراتيين\" , الذين يعتقدون أن التاريخ ليس سوى حلقات متصلة من \"المؤامرات\", متناسين كيمياء التاريخ. لو كانت \" المخابرات\" هي التي تحرك التاريخ, لما سقط طاغية واحد في العالم منذ نيرون , وما كانت انهارت إمبراطورية واحدة في التاريخ. قراءات متحيزة.. هيكل نموذجاً ● غالب الخطابات التي تحاول قراءة الربيع العربي , وبسبب بنيتها الداخلية ذاتها, تنتج قراءات متحيّزة.. تحيّزاً ايدولوجيا أو اجتماعياً أو سلطوياً. ومن هذه القراءات والتحليلات المتحيزة, قراءة هيكل. هيكل لا يستطيع بحكم الخطابات التي أوجدها وأوجدته, على مر الستين عاماً منذ يوليو 1952, إلا أن يقرأ هكذا. فهو أيقونة الصحافة الشمولية في المنطقة, لأنه ارتبط بالنظام الناصري- حاضنة الشموليات العربية والإفريقية. هيكل , لا يستطيع أن يرى الظاهرات السياسية , إلا عبر عدسة صدئة تظهر هذه الثنائية البالية: الاستعمار- التحرر الوطني. وليس بوسعه أن يدرك, أن التحرر الوطني الحقيقي, صار الآن من الاحتلالات \"الوطنية\" !! هيكل لاصق تماماً بانقلابات ''الضباط الأحرار\", التي سمت نفسها جزافاً ثورات . ومن ثم, كان طبيعياً أن يكون أول من أجرى لقاءاً صحفياً مع القذافي قائد الانقلاب الليبي الجديد 1/9/1969!! وربما كان أول من أجرى لقاءاً مع نميري أيضاً لأن التنسيق كان منساباً بين هذه الانقلابات ( راجع كتاب المحجوب-الديمقراطية في الميزان). هيكل, ليس مفكراًً, على كثرة ما كتب, مثلما أن القذافي ليس خطيباً على كثرة وطول ما خطب. هيكل كان أيقونة الصحافة \" الشمولية\" في المنطقة , ولا يستطيع بحكم الخطابات التي صنعها وصنعته , استيعاب \"نحو\" المرحلة الجديدة, تماماً كما لم يكن في مقدور القذافي ومبارك وصالح والأسد استيعاب هذا اللهب اليومي النابت من الشوارع والأرصفة والميادين في كل مكان !! ومن تلك القراءات أيضاً , أن رأى بشار نفسه بمنأى عن تيار الربيع الهدّار, لأنه من (دول الممانعة), ثم ما لبث أن أحاطت به بالمياه من كل جانب. وكل أنظمة المنطقة تقريباً, قدمت قراءات وتحليلات من هذا الصنف. ولكن , من القراءات النقدية المحترمة , لهذا الربيع قراءة الأكاديمي المصري مأمون أفندي. فالأفندي , مستوعب تماماً للمرحلة الجديدة ولنحو الخطاب الجديد . مأمون أفندي, ناقد ربيعي للربيع العربي, وقراءاته أكثر معرفية, ويجب أن تأخذ بجدية كبيرة. توكل كرمان: تواقت الذاتي والموضوعي (هذه هي رسالتنا)!! ● لكي تنجح الثورة, أي ثورة, لابد أن تتواقت العوامل الموضوعية مع العوامل الذاتية. ومن هذه التواقتات, بروز شباب الربيع العربي , الوكيل التاريخي الحصري لهذا الربيع البديع. ومن كيمياء التلاحن التاريخي هذا, طلعت الناشطة اليمنية الشابة توكل كرمان. وفيما كانت أحزاب \"اللقاء المشترك\" , كجل الأحزاب المعارضة في المنطقة, تسقف مطالبها بزيادة رقعة الهوامش الديمقراطية وينتظرون هدايا صالح, أدركت توكل بحسها الثوري الدقيق والمتلاحم مع شبكة الأشراط الموضوعية اللازمة على الأرض, أن العالم العربي يتهيأ الآن لتاريخ جديد , لعرس جديد, لهجمة (الموجة الخامسة), بتعبير الإمام المفكر الصادق المهدي, الذي كان سبق الجميع في التنبؤ المؤسس بهذه الظاهرة التاريخية الكبرى (راجع مقالته في الشرق الأوسط , 2006- هجمة الموجة الخامسة , وورقة علمية عن الديمقراطية في العالم العربي قدمت في اليمن, 2004). وكان طبيعياً, أن يكتب المهدي, بعد ذلك, كتابه الجديد عن هذا الربيع , والذي لم يتيسر لنا الحصول عليه في مهاجرنا حتى الآن, والكتاب السوداني عصيٌ على النوال في المهاجر. ● كانت توكل كرمان تنشط منذ سنوات, في معارضة نظام صالح وتدعو , بلا وجل ,للإطاحة به. وما أن شالت البروق في تونس ومصر وأصابها مطر الربيع , حتى كانت كرمان ,وهي امرأة شابة , في بلد شديد المحافظة والقيودات الاجتماعية على المرأة, تنزل إلي الشوارع , وتقود المظاهرات, ضد الوضع القديم المتعفن برمته, مطالبة الديكتاتور, بالرحيل الفوري .. صائحة من على ظهر الهوائيات: \"هذه هي رسالتنا\" !!. كان إيقاعها أسرع من الجميع . كانوا جميعاً , خائفين ووجلين وحذرين. لكن توكل توكلت على الحي الدائم , وهتفت بزوال النظام !! وكان طبيعياً , ضمن هذه الكيمياء, أن يقول أبوها أن هذه البنت المشاكسة قد (أتعبته جداً), وأن يجد رجال الديكتاتور اليمني المراوغ, حرجاً كبيراً في التعامل مع امرأة, صنفت ضمن أقوى 500 شخصية في العالم, ووصفتها مجلة التايم الأمريكية \"بأكثر النساء ثورية في التاريخ\"!! التأصيل الجدلي التعددي المستنير ● وملمح آخر مهم في ثورية توكل, هو تجسيدها الرائع لجدل الأصالة والحداثة , بوصفه عنصراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية الجديدة. فالإسلام , عند كرمان هو الديمقراطية, وهو حقوق الإنسان وقيم الدولة المدنية الحديثة \"كالمواطنية\" وسلمية مداولة السلطة, والعدل القضائي والاجتماعي, وكل الحريات الأساسية. ما خلا ذلك, فقراءات لإنتاج وتبرير الشموليات والديكتاتوريات , بجميع صنوفها الاجتماعية والسياسية. هذا الحس الثوري لكرمان, يجيء متناغماً تماماً مع نبض التاريخ الإنساني. فكل النهضات العظمى في التاريخ , كان فيها عنصر تأصيلي ما ( بالمعنى الجدلي التجددي المستنير للتأصيل, وليس المعنى الارتدادي السلفوي ). ومن ذلك, النهضة الأوربية التي استلهمت الأصالة اليونانية-الرومانية القديمة , كما في النزعة الإنسانية ( Humanism), وكما في حركة الكلاسيكية الجديدة, في الآداب والفنون ( Neo-classicism). والنهضة الانجليزية اتكأت على عودة تجددية إلي منابع الثقافة الأنقلو- ساكسونية, بعد أن دمرها الاحتلال النورماندي, حينما غزا الدوق النورماندي وليم الملقب بوليم المحتل انجلترا في العام ( 1066 ). وبعدها, كان تشوسر أول من كتب الأدب الانجليزي باللغة الانجليزية , حيث كانت العلوم و الآداب العالية تكتب باللغة اللاتينية أو بالفرنسية أيام الاحتلال. والانجليز لا يزالون يمجدون الملك آلفرد, ويعتبرونه أعظم الملوك الانجليز على الإطلاق , ويلقبونه بآلفرد العظيم( Alfred the Great, 871-899) , بسبب نجاحه في صد غزوات الفايكنز , وتمكنه من بناء مملكة وطنية عظيمة استوحت ملامح الشخصية الأنقلو- سكسونية. كان الملك آلفرد شديد الاعتداد باللغة والثقافة الانجليزيتين. ورغم أن أمريكا بلد جديد , بالمقياس التاريخي, لكن نهضتها ( 1835-1880), انطلقت كذلك, من هضبة الاستلهام الروحي الحضاري الذاتي, كما تجسدت في كتابات الشاعر والفيلسوف الأمريكي رالف ايمرسون Emerson. إيمرسون دعا الأمريكيين إلى ترك تقليد الأوربيين في كل شيء, والاعتماد على الروح الأمريكي الخاص , قائلاً ( سنمشي على قدمينا, وسنعمل بأيدينا ,وسنفكر بعقولنا ). وكانت حركة التجاوزية (Transcendentalism ) الفكرية الجمالية, العائدة إلى كانط وللرومانتيكية الأوربية - وهي حركة فلسفية وجمالية ترد المعرفة جميعاً إلى خريطة التفكير وحيوية الإدراك الذاتي للأشياء- كانت هي المازج الحقيقي الذي يخلط وقود النهضة مع هواء التاريخ, فتندفع أمريكا صوب نفسها وصوب المستقبل في آن ( ايمرسون, ثورو, ويتمان, هوثورن, مارك توين, ميلفيل, إدقر ألن بو ... الخ). وفي هذا السياق, كان اللغوي الأمريكي الأشهر Webster يكتب قاموسه الشهير , داعياً إلى الاعتداد باللغة الانجليزية الأمريكية- التي كان ينظر إليها بدونية- وهو نفسه الذي جعل الرسم الهجائي الأمريكي مختلفاً حتى الآن , عن نظيره البريطاني. وحتى أوباما , فقد كان من أهم أسباب نجاحه في انتخابات 2008 , استلهامه الخلاق لهذا الروح والحلم الأمريكي , كما يتجلى في كتاباته وخطبه الأسّارة. ولكن, يبدو أن الهرمنة – في حالة أوباما- بين الذاتي والموضوعي , ليست كافية تماماً لتغيير جذري في أمريكا. ولم تخل النهضات الآسيوية المعاصرة , كالنهضة اليابانية من ملمح تأصيلي أيضاً ( بعض الملامح الكونفوشوسية) . كما أن الأمريكيين اللاتينيين, عكفوا كذلك, على أنفسهم يستنهضون نسختهم الخاصة من المسيحية , فيما عرف \"بلاهوت التحرير\". وثورة أكتوبر السودانية 1964 استردفت , حركات استدعاء حضاري- روحي مهمة من قبيل (الغابة والصحراء) , ومدرسة (اباداماك), وقبيل ذلك, كانت هناك (مدرسة الخرطوم التشكيلية), وحركة (السودانوية). وهذا ما ميز أكتوبر عن ابريل 1985, التي افتقدت هذا الزخم الإستدعائي-الروحي المتنوع ! إذاً, لا غضاضة أبداً, على هذه الجوانب التأصيلية, بل هي مرغوبة و مطلوبة, شريطة أن تكون تأصيلات جدلية تجددية تعددية مستنيرة , وليست تأصيلات آحادية سلفوية منكفئة, وطالما ابتعدت كذلك, عن التأصيل المرتبط بآليات الاستعمال و التبرير للديكتاتوريات والشموليات النتنة. نريد تأصيلاً, يستنسخ اللحظة \"الحاضرة\" من الماضي( the present moment of the past), كما يقول إليوت, ولا نريد تأصيلا يستنسخ اللحظة \"الماضية\" من الماضي ليلصقها مكان الحاضر, ويشطبه كله, فنشوّه بذلك ماضينا, ونخسر الحاضر والمستقبل معاً ! نوّارة الربيع وجائزة نوبل لا بد أن يكون لي يومٌ, يناديني باسمي, لابد أن يكون لي وطنٌ, غير هذه الصفحة (...) تعجبني قفزتك الآن, من الكل إلى نفسك, يا بنت خذيني ! كي نصبح أكثر إقلاقاً لنظام العشق, وأكثر عصياناً مما أتحمل وحدي ! ( البرغوثي) ● توكل كرمان.. تفور بالتفاؤل الثوري .. هي نوارة الربيع العربي المفرهدة, وزنبقة الزمن الجديد, و\"كنداكة\" اليمن السعيد. جاءت تجسد هذا التلاطم والتصادح التاريخي بين الأصالة والحداثة. جاءت تحمل طزاجة النص المختلف..وعبق تكنولوجيا المعرفة والاتصال.. ورائحة بيوت الطين القديمة. شمّوا فيها رائحة الماضي , تُعبّق فضاءات الحاضر, فلقبوها(ببلقيس الثانية), ولمحوا فيها رعود المستقبل الرزّامة , فأهدوها جائزة نوبل للسلام للعام ( 2011), تناصفاً مع رمانتين أفريقيتين أخريين , هما ألين جونسون (أول رئيسة منتخبة في ليبيريا), وناشطة السلام الليبيرية ليما غبوي.. علامة أخرى على بداية عصر جديد من التلاحم والتلاحن العربي-الأفريقي المنشود. لكن, الناشطة اليمنية الملتزمة , تبرعت بالجائزة للشعب اليمني .. لتوضع في خزينة الدولة, وذهبت في شأنها تهتف بسقوط النظام !! ---- وبالتوفيق يا وردة الربيع العربي المفروكة بالندى.. والمزعترة بعذابات الميادين وعرق الأرصفة .. توكل كرمان !