إليكم . الطاهر ساتي [email protected] إجازة مع وقف التنفيذ ..!! ** منذ الجمعة الفائتة والى حين إشعار آخر، أنا في إجازة مع وقف التنفيذ..قد أشرح لاحقا شكل هذه الإجازة وطعمها ولونها ورائحتها، وقد لا أشرحها، بحيث تتجلى كل تلك المعاني - بلا شرح - في ثنايا السرد..المهم، شعرت برهق المهنة ووطأة محاكمها ونياباتها، وبتقصير تجاه نفسي وأهلي، إذ آخر عهدي بالهدوء كان قبل ثلاث سنوات وخمسة أشهر..ولذلك، فكرت وقررت قضاء شهر - بلا كتابة - بأي ريف من أرياف البلد النائية..فالحياة في الريف النائي أحلى رغم أنف شح الخدمات، بحيث لاترى فيه سياسيا يعكر صفو عقلك ويذكرك بالحرب والفقر والنزوح، ولاتقرأ فيه صحيفة منافقة تصيبك بالإكتئاب، وهذا وذاك من نعم الله على أهل الأرياف البعيدة..ولكن رئيس تحريرنا أفسد تفكيري وصادر قراري بعد نقاش من شاكلة : ( إجازة شنو ياخ؟، مافي كاتب محترم في الدنيا دي بيأخد إجازة شهر،امشي ارتاح ليك اسبوع برة الخرطوم دي وتعال واصل)،أوهكذا ختم النقاش الذي كان طويلا، فوافقت مرغما بعد المفاضلة بين الإجازة وكاتب محترم، وبعد أن عرفت -لأول مرة في حياتي - بأن الإجازة مسبة وعدم إحترام..وعليه، توكلت على الله وسألت بعض الأهل والاصدقاء بكل ولايات السودان - مستطلعا ومشاورا - عن المكان المناسب لقضاء (أسبوع رئيس التحرير)، فجاءت ولاية البحر الأحمر في رأس القائمة.. !!! ** وليطمئن قلبي، إتصلت ببعض اصدقائي رواد منتدى البرش الذي يجمل سوحا بجوار نادي دبايوا، سائلا إياهم عن الحال العام بولايتهم..ورواد هذا المنتدى كما عرفتهم وخبرتهم يتميزون بالنقد المبرح للحال العام ولآداء أية حكومة تحكم البحر الأحمر..أحدهم صديقي علي منيب، كان قياديا بمؤتمر البجا ثم صار قياديا بالحركة الشعبية قطاع الشمال ثم التحق بركب الحركة الشعبية جناح لام أكول نائبا للرئيس وأخيرا أصبح مواطنا صالحا يكره بؤس الحكومة وضعف المعارضة وعشوائية الحركات و( صمت الشعب)..سألته عن الحال العام بالبحر الأحمر، فرد بطريقته المعهودة ( والله يا ساتي البلد تمام وفيها سياحة سمحة لكن نحن عايزين تغيير حقيقي وحريات)، فنهرته بمنتهى الإستياء (لا ياحبيب، انت بس العايز تغيير وحريات، لكن أنا عايز فقط الهدوء والبحر والراحة لمدة أسبوع، ممكن ولا امشي دنقلا؟)، وقبل أن يكمل ضحكته واصلت محذرا إياه (لو سمحت يا منيب تعال لي في الكورنيش زول سياحة، و أنا تب ما زولك لو عايز تلاقيني زول حريات وتغيير)..ولرحمة الله بي وللطفه بحالي، جاء بعلي منيب الي الخرطوم في ذات يوم توجهي الي بورتسودان..!! ** من المطار إلى الكورنيش، ثم الي استاد بورتسودان مباشرة برفقة صديقي - وقريبي - خالد علي..وخالد هذا يستحق أن يكون مزارا للنوبيين، وهو ليس بشيخ في خلوة ولافكي ذي قبة وليس بتمثال في كرمة، ولكنه يصدر المواشي..وتلك تجارة لم يحترفها أي نوبي منذ تهراقا وبعانخي والي يومنا هذا غير صديقي هذا، ولذلك حين يحدثني عن متاعب المحاجر ومشاكل التصدير ورداءة النهج التجاري،أحدق فيه مليا بلسان حال قائل (غايتو سبحان الله، وفعلا حكمتو بالغة)، إذ هموم أهلي لايتجاوز سقفها ضرائب النخيل وحرائقها ثم أسعار مواد البناء وكذلك جمارك الإسبيرات ومتاعب الغربة والإغتراب، ولا أدري كيف غزا خالد ديار العرب وشاركهم مهنة تصدير المواشي؟..المهم، باستاد بورتسودان تساءلت ( هل المناسبة مبارة قمة أم حفل لمحمد النصري؟)..فالمدرجات - الوسطى منها والشعبية - تضج بالناس والحياة، وكذلك أرض الملعب، فالسواد الأعظم فقط يسمع غناء المطرب وإنشاد الشعراء ولايرونهم رغم أن المسرح يتوسط دائرة منتصف الملعب، إذ هي كثافة لا يعهدها مثل هذا المكان الا في حال (هلال/ مريخ) أو ( هلال/ حي العرب)..ولكن هكذا دائما الرائع ود النصري والعمالقة الفاتح ابراهيم بشير وحاتم الدابي ومحمد السفلة، أينما ذهبوا جاءتهم الأسر تجرجر أشواقها وأفرادها، بحثا عن اللحن الطروب والنص الأصيل ..!! ** كان المشهد أسريا ورائعا باستاد بورسودان..فالأب يجلس بجوار الأم ويحلق حولهما الأبناء والبنات كما النحل حول أزاهير الربيع..ونصف الاستاد يتماوج طربا ويلهب المكان تصفيقا والنصف الآخر يوثق السعادة بعدسات الهواتف السيارة..وينفض الحفل بعد منتصف الليل بساعة، وينتشر الجمع الغفير الي سوح المدينة الرائعة والنظيفة، ليستنشقوا هواء البحر ويوثقوا مشاهد أمواجه حين يعكسها ضياء الأرصفة، وهم على مقاعد المقاهي والكافتريات يتناولون كل ما هو طيب وحلال بنشوة وسرور..يا لروعة الأهل هنا، بعد منتصف الليل بساعة، تبدأ حياتهم الأخرى في عاصمة البحر الأحمر، حياة لا تعكر صفوها النجدة والعلميات، ولا يتلصص عليها النظام العام..البجا واخوانهم وضيوفهم على الشاطئ وسوح المدينة،تشع ابتساماتم كما الزمرد في ساعة شروق وكما المرجان في شعاب قاع بحر شفيف، لاتميز الوزير عن الخفير ولا المدير عن الطالب ولا الثري عن الفقير، فالبحر للجميع وكذلك الأناقة الموازية للشواطئ..وأنا أوثق تلاطم الأمواج ومدها وجذرها، تذكرت حديث أحد أصدقائي بالخرطوم عندما اقترحت له ذات مساء شارع النيل مكانا مناسبا للتلاقي ، قالها هكذا: ( شارع النيل ده هو المكان الوحيد في الدنيا البيجبرك تقعد وانت مدي ضهرك للنيل، وتقعد تعاين في جدران الوزارات والمؤسسات وأسوار الفلل الرئاسية ..لو اصلا كدة ما نقعد في بيتنا؟)..لقد صدق، انه سوء التخطيط وأزمة الخيال وبؤس الإدارة وقمة اللامبالاة واللامسؤولية..عفوا أيتها النفس المطمئنة والهادئة، مالي أنا والخرطوم ونيلها المحجوب وفساد نهج ساستها، أمامي البحر الأحمر وجمال كورنيش على مد البصر يهبك الحب والجمال والفرح النبيل..شكرا عميقا لكل من حولوا عاصمة البحر الأحمر الى جوهرة مدائن بلادي..صدقا انها كانت إجازة، و لأن الكتابة فيها وعنها - بعيدا عن تصريحات الساسة وتقارير مراجعهم العام وعرضحالات رعيتهم- مريحة جدا، وهذا ما تعرف ب ( إجازة مع وقف التنفيذ) ..!! ............ نقلا عن السوداني